تفسير سورة الأنعام

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

2 – (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ) أي خلق أباكم من طين ، والمعنى بدأ خلقكم من طين (ثُمَّ قَضَى) لكم (أَجَلاً) في دار الدنيا ، والأجل هو من يوم ولد الإنسان إلى يوم يموت (وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ) في عالم البرزخ ، والمعنى وجعل لكم أجلاً آخر باقين فيه ، وهو من موتكم إلى يوم القيامة ، والأجل معناه التأجيل أي الإمهال ، والمسمّى  معناه المقدّر لكم (ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ) أي تشكّون وتجادلون .

   فهذه الآية تصرّح وتؤكّد بأنّ الإنسان لا يزول من الوجود بموته بل ينتقل من عالم مادّي إلى عالم أثيري ، وبعبارة أخرى أقول أنّ الإنسان لا يموت بل ينتقل من دار إلى دار ، لأنّ النفس هي الإنسان الحقيقي أمّا الجسم فلا حاجة فيه بعد خروج النفس منه ، فيجب على الإنسان أن يتهيّأ للإنتقال إلى الدار الأخرى التي يرحل إليها عن قريب فيهيّئ له متاعاً وأثاثاً وألبسة وأطعمة وغير ذلك ، ويجب عليه أن يتزوّد من ذلك لأنّه باقٍ هناك لا يرتحل ولا يموت موتة ثانية قال الله تعالى في سورة البقرة {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} .

   وقد شرحت عن العالم الأثيري في كتابي (الإنسان بعد الموت) وكتابي (ساعة قضيتها مع الأرواح) شرحاً وافياً فإن أردت زيادة إيضاح فطالع أحدهما تجد ما يسرّك .

http://www.quran-ayat.com/saa/index.htm#ما_هي_الأرواح_

http://www.quran-ayat.com/saa/index.htm#كشف_الحقيقة_

 

5 – (فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ) به محمّد من الأدلّة العقلية والبراهين العلمية والآيات القرآنية واستهزؤوا بِها ، وكان استهزاؤهم بالآيات المتشابهة من القرآن (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ) في المستقبل (أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ) من الآيات المتشابهة ، يعني سيأتيهم تأويلها وتفسيرها حتّى يعلموا أنّه كلام الله وليس من قول البشر كما يزعمون . والشاهد على ذلك قوله تعالى في سورة ص : {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} ، أي بعد زمن .

8 – (وَقَالُواْ) أي كفّار قريش (لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) من السماء فيخبرنا بأنّ محمّداً نبيّ وهو صادق في دعوته . فردّ الله عليهم قولهم وقال (وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ) بإهلاكهم ، والمعنى لو أنزلنا ملكاً من السماء كما اقترحوا لقالوا عند رؤيته هذا سحرٌ مبين ، كما قال فرعون وقومه لَمّا رأوا العصا صارت حية ، فكذلك قريش إذا لم يؤمنوا عند رؤية الملَك وجب عليهم الهلاك والدمار فنهلكهم وينتهي الأمر (ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ) أي لا يمهلون .

9 – (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً) لأنّ الملائكة أثيريون لا ترهم الناس ولا تسمع أصواتهم إلا بالإيحاء فيجب أن نجعل للملك جسماً مادياً لكي يراه الناس (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ) يعني إذا جعلناه رجلاً التبس  الأمر عليهم كما هم ملتبسون الآن .

12 – (قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ) أي يجمع أرواحكم في عالم البرزخ ، لأنّ النفس هي الإنسان الحقيقي (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ثمّ يحاسبكم ويجازيكم ، فمجمع النفوس يكون هناك فيلتقي الأبناء بالآباء (لاَ رَيْبَ فِيهِ) أي لا شكّ في يوم القيامة لأنّه آتٍ لا محالة ، إنّ الكافرين المنكرين له (الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ) حيث أبدلوا الجنَة بالنار والعزّ بالعار (فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) بالحساب .

19 – أتى أهل مكّة رسول الله فقالوا أما وجد الله رسولاً غيرك ؟ ما نرى أحداً يصدّقك فيما تقول ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فقالوا أنّه ليس لك عندهم لك عندهم ذكر فأرِنا من يشهد لك أنّك رسول الله كما تزعم . فأنزل الله هذه الآية (قُلْ) يا محمّد لهؤلاء الكافرين (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً)1 على صدقي كلام الله أم كلام الناس ؟ فالله أعلم بالأشياء من الناس وهو الذي أرسلني والقرآن كلامه ، فلماذا تصدّقون كلام اليهود والنصارى وتكذّبون كلام الله ؟ (قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ) يسمع أقوالكم ويرى أفعالكم ، وكلامه القرآن يشهد لي بأنّي رسول الله إليكم (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ) من عذاب الله وعقابه إن لم تؤمنوا وتتركوا عبادة الأوثان (وَمَن بَلَغَ) أشدّه أيضاً ينذر بالقرآن وهو يشهد لي أيضاً . ونظيرها في آخر سورة الرعد وهي قوله تعالى {قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} . يعني ومن عنده علم الكتاب فهو يشهد لي أيضاً ، ويريد به المهدي وكذلك قوله تعالى (وَمَن بَلَغَ) يريد به المهدي وذلك من قوله تعالى في سورة الأحقاف {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ..الخ} ، وهذه الآية في وصف المهدي وهي في سورة الأحقاف .

(أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى) هذا سؤال على وجه الإنكار والتوبيخ وتقديره كيف تشهدون أنّ مع الله آلهةً أخرى بعد وضوح الأدلّة وقيام الحجّة على وحدانيّته (قُل لاَّ أَشْهَدُ) كما تشهدون (قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ) به .

   وجاء في كتاب مجمع البيان في المجلّد الرابع صفحة 282 قال : "وفي تفسير العياشي قال أبو جعفر وأبو عبد الله (ع) من بلغ معناه من بلغ أن يكون إماماً (يعني المهدي) فهو ينذر بالقرآن كما أنذر به رسول الله . وعلى هذا يكون قوله ومن بلغ في موضع رفع عطفاً على الضمير في أنذر ."

 ------------------------------------------------------

1 قال المفسّرون وفي الآية دلالة على أنّ الله تعالى يجوز أن يسمّى شيء . أقول لا يجوز ذلك لأنّ لفظة شيء معناها المادّة ، وإنّ الله تعالى يجلّ عن المادّة ، فقد قال تعالى في سورة الشورى : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} .

 

23 – (ثُمَّ لَمْ تَكُن) نتيجة (فِتْنَتُهُمْ) بالأصنام ، أي افتتانهم بِها (إِلاَّ أَن قَالُواْ) بعد موتهم (وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) وهذا على اعتقادهم بأنّهم لم يجعلوها آلهة بل عبدوها لتشفع لهم عند الله ، وذلك من قولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله .

24 – (انظُرْ) يا محمّد إلى هؤلاء المشركين (كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ) بقولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، (وَضَلَّ عَنْهُم) أي غاب عنهم وضاع منهم (مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) به على الناس من أمر الشفاعة .

27 – (وَلَوْ تَرَىَ) يا محمّد (إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ) أي عند النار ، يعني قريياً منها للسؤال (فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ) إلى الدنيا (وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بِها ، أي من المصدّقين ، فردّ الله عليهم أمانيّهم وكذّبهم فقال :

28 – (بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ) أي ظهرت لهم مخازيهم وانكشفت للناس أسرارهم وأعمالهم السيّئة فالمنافق لا يترك عاداته مهما أضمر الإحسان في قلبه لأنّ عاداته تتغلّب عليه . ثمّ أخبر سبحانه عنهم بأنّهم إذا رجعوا إلى الدنيا كما تمنّوا يعودون إلى أعمالهم المخزية وإلى إشراكهم لأنّ الأرواح إذا دخلت في الأجسام تنسى ما كانت عليه في العالم الأثيري وإذا ذكرت شيئاً من ذلك تظنّه رؤيا وليس حقيقياً ولذلك يعودون إلى ما تعوّدوه ، ثمّ إنّ الشيطان يلاحقهم ويغويهم فلذلك قال تعالى (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) فيما يتمنّونه .

33 – (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ) قولهم (الَّذِي يَقُولُونَ) إنّه مجنون وساحر وشاعر (فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ) في قلوبهم لأنّهم يعرفونك صادقاً (وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ) منهم ، أي رؤساءهم (بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ) تكبّراً منهم وعناداً . روي أنّه التقى أخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام فقال له يا أبا الحكم أخبرني عن محمّد أصادق هو أم كاذب فإنّه ليس هاهنا أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا ؟ فقال أبو جهل ويحك والله إنّ محمّداً لصادق وما كذب قطّ ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والندوة والنبوّة فماذا يكون لسائر قريش ؟

35 – لَمّا جاء النبيّ إلى قريش ودعاهم إلى الإسلام قالوا ائتنا بمعجزة فنؤمن بك ونصدّقك . فسأل النبيّ من الله أن يعطيه معجزة فنزل قوله تعالى في سورة العنكبوت {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} ، فعاد النبيّ يدعو قومه للإسلام ، فقالوا نريد معجزة ، فقال هذا القرآن معجزة ، فقالوا لو نشاء لقلنا مثل هذا ، فنزل قوله تعالى في سورة الطور {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ } . فقالوا نريد معجزة كما جاء بِها موسى وعيسى وغيرهم من المعاجز المادّية . فسأل الله أن يعطيه معجزة  فنزل قوله تعالى في سورة النحل {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} ومعناه لقد أعطيناك معجزة علمية وهي القرآن فادعُ قومك بِها ، أمّا المعجزة المادّية كالعصا والناقة وغيرها لا فائدة فيها لأنّنا لو أعطيناك معجزة مادّية كما اقترحوا عليك ورأوها بأعينهم لقالوا هذا سحر مبين ، فحينئذٍ وجب علينا إهلاكهم ونحن لا نريد إهلاكهم .

   ثمّ عاد النبيّ يدعو قومه إلى الإسلام فكرّروا عليه القول وطلبوا منه المعجزة فقال ربّ إنّ قومي يريدون معجزة فقال ربِّ إنّ قومي يريدون معجزة مادّية فنزلت هذه الآية (وَإِن كَانَ كَبُرَ) أي عظم واشتدّ (عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ) وانصرافهم عن الإيمان (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) أي قدرت وتمكّنت (أَن تَبْتَغِيَ) أي تطلب وتتّخذ (نَفَقًا فِي الأَرْضِ) أي نقباً ومنفذاً في جوف الأرض فانزل إليه وأخرِجْ لهم معجزة إن أمكنك ذلك (أَوْ) اتّخذْ لك (سُلَّمًا) أي مصعداً (فِي السَّمَاء) فاصعدْ فيه إلى السماء وائتهم بمعجزة إن كان ذلك باستطاعتك وإرادة قومك ، وذلك قوله تعالى (فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ) أي بمعجزة ، ولكنّ الأمر بأيدينا فإنّنا لا نرى فائدة في المعاجز المادّية والأحسن منها أدعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة (وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى) ولكنّ الله يهدي من يشاء ، أي يهدي من يستحقّ الهداية (فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) بتكرارك طلب المعجزة .

36 – (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ) لك ويؤمن بك (الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) ويعقلون (وَالْمَوْتَى) الذين لا يسمعون لقولك ولا يؤمنون بك (يَبْعَثُهُمُ اللّهُ) يوم القيامة (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) فيعاقبهم على كفرهم وتكبّرهم وعنادهم .

37 – (وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) أي معجزة (مِّن رَّبِّهِ قُلْ) يا محمّد لهم (إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) عاقبة ذلك لأنّنا إذا أنزلنا عليهم معجزة كما اقترحوها ولم يؤمنوا أهلكناهم أجمعين .

59 – كانت قريش تحيك المؤامرات ضدّ النبيّ وتريد الفتك به ، وكان الله تعالى يخبره بذلك فيأخذ الحذر منهم ، فقال بعضهم لبعض مَن أخبر محمّداً بِما أضمرناه له فهل أنّ محمّداً يعلم الغيب أم أنّ أحداً من قريش يخبره بذلك ؟ فنزلت هذه الآية (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) أي خزائن الغيب وأخبارها (لاَ يَعْلَمُهَا) أحد من الناس فيخبر بها محمّداً (إِلاَّ هُوَ) يعلمها فيخبر بها رسوله ليأخذ الحذر (وَيَعْلَمُ) ايضاً (مَا فِي الْبَرِّ) من حيوانات برّية (وَالْبَحْرِ) من مخلوقات بحرية (وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ) من الأشجار (إِلاَّ يَعْلَمُهَا) فهو يحصي أعمالكم والملائكة تكتبها في صحائف أعمالكم (وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) يعني مهما عملتم من صغيرة أو كبيرة تكتب في صحائف أعمالكم وبتبيّن لكم ذلك يوم القيامة . ونظيرها في سورة سبأ وهي قوله تعالى في سورة سبأ {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} .

69 – لَمّا نزل قوله تعالى في سورة الأنعام {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} قال المسلمون كيف نصنع إذا دخلنا المسجد الحرام وهناك سمعنا المشركين يستهزؤون بالقرآن ، فنزلت هذه الآية (وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ) أي يتّقون استهزاءهم ويبتعدون عنهم ، ما عليهم (مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ) أي  ما عليهم من حساب المشركين من شيء ، والحساب معناه العقاب والمؤاخذة بالآثام ، ومعناه ما على المتّقين من عقاب الكافرين من شيء فكلّ واحد يؤاخذ بذنبه لا بذنب غيره . وكذلك قوله تعالى في سورة إبراهيم {إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} ، يعني سريع العقاب والمؤاخذة بالدنيا قبل الآخرة . وقوله (وَلَـكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) يعني ولكن تذكيراً لهم لعلّهم يتّقون مجالستهم والابتعاد عنهم حين استهزائهم بالقرآن .

70 – (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) ويريد بذلك المشركين الذين كذّبوا النبيّ واستهزؤوا به ، والمعنى أتركهم ولا تخاطبْهم مرّة أخرى لأنّ الكلام لا يفيد معهم (وَذَكِّرْ بِهِ) أي بالقرآن ، يعني عظ وأنذر به غيرهم ، والمعنى أدعُ الناس إلى الإيمان مرّة واحدة فمن أسلم وآمن فلنفسه ومن عاند وجحد نبوّتك أتركه وادعُ غيره وسيلقى عقابه بعد موته (أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ) من الآثام ، يعني ألا تخاف النفس المكذّبة المعاندة أن تبسل في عالم البرزخ من بين الكافرين وتؤخذ إلى جهنّم .

   ولا تزال هذه الكلمة مستعملة عندنا في العراق لتفريق نوعين من الفواكه أو الحبوب على أن يكون أحدهما قليلاً والآخر أكثر منه فيؤخذ القليل واحدة فواحدة ويترك الآخر فيقول لصاحبه إبسل البرتقال عن النومي (ليمون) يعني أعزله . أو تستعمل لفاكهة واحدة ولكن فيها الجيّد والرديء فيقول لصاحبه إبسل التمر ، أي إعزل الجيد من الرديء ، فالجيّد المعزول يقال فيه (مبسول) أمَا الرديء يقال فيه (بسالة) ، وقد قلنا في كتابنا (الإنسان بعد الموت) أنّ دخول جهنّم في عالم البرزخ خاصّ للأمّة التي كذّبت رسلها مواجهةً وليس لجميع الكافرين أمّا الباقون فدخولهم فيها يكون يوم القيامة . فإنّ الله تعالى يأمر ملائكة العذاب أن تلتقط هؤلاء المكذّبين من بين الكافرين واحداً بعد الآخر وتغلّل أيديهم بسلاسل من حديد وتأخذهم إلى جهنّم ، والشاهد على ذلك قوله تعالى في سورة الحاقّة {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ . ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ . ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} ، وقوله (لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ) يتولّى أمرها ويدافع عنها (وَلاَ شَفِيعٌ) يشفع لها ويخلّصها من عذاب الله (وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا) يعني وإن تعادل آثامها بكلّ شيء من مال الدنيا وتفدي به لتخلص من العذاب فلا يقبل منها والمعنى لا يدفع عنها العذاب وليّ ولا شفيع ولا مال (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ) اي التُقِطوا من بين الكافرين وأُخِذوا إلى جهنّم (بِمَا كَسَبُواْ) اي بسبب ما كسبوا من الآثام والتكذيب لرسلنا (لَهُمْ) في جهنّم (شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ) أي ساخن يغلي (وَعَذَابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم (بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ) بآيات الله .

71 – دعا بعض المشركين من أسلم وآمن بمحمّد فقالوا لهم لا يغرّنّكم محمّد بدينه إرجعوا إلى دينكم ودين آبائكم . فنزلت هذه الآية (قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا) يعني تدعونا إلى عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضرّ (وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا) أي نرجع إلى الوراء ، وهذه كناية عن الجهل ، والمعنى أتريدون أن نرجع إلى جهلنا وضلالنا الذي كنّا عليه معكم (بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ) إلى الإسلام ونجّانا من الكفر والضلال (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ) وهو إبن نوح الذي أغوته وأغرته1 شياطين الإنس ، وهم الكافرون من قوم أبيه حيث قالوا له لا تركب مع أبيك في السفينة بل ابقَ معنا فسمع كلامهم وهلك معهم ، فكذلك أنتم تريدون أن تغرونا بقولكم فنترك رسول الله ونرجع إلى عبادة الأوثان والأصنام فهذا لا يكون ، وقوله (حَيْرَانَ) أي وقع في حيرة من أمره لأنّ قوم أبيه يمنعونه من الركوب في السفينة ، وأصحاب أبيه المؤمنين يدعونه إليهم ليركب معهم فلا يدري مع أيّهما يذهب (لَهُ أَصْحَابٌ) وهم المؤمنون الذين في السفينة (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) ويقولون له (ائْتِنَا) أي تعال معنا ، ولكنّه لم يركب معهم بل بقي مع الكافرين فغرق وهلك (قُلْ) يا محمّد لهؤلاء الكافرين (إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ) الذي لا يحيد عنه صاحبه ، والمعنى إنّ الله تعالى إذا هدى أحداً إلى الإيمان وزيّنه في قلبه فلا تقدرون أنتم على إرجاعه عن الإسلام (وَ) قل لهم (أُمِرْنَا لِنُسْلِمَ) أي لنستسلم (لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) فأسلمنا وآمَنّا .

آراء المفسّرين

   جاء في كتاب مجمع البيان للطبرسي في المجلّد الرابع صفحة 319 في تفسير هذه الآية قال : " {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ} لا يهتدي إلى طريق ، وقيل معناه استغوته الغيلان في المهامه ، عن ابن عبّاس وقيل معناه دعته الشياطين إلى اتّباع الهوى ، وقيل أهلكته ، وقيل ذهبت به ، عن نفطويه وقيل أضلّته ، عن أبي مسلم {لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} أي إلى الطريق الواضح يقولون له ائتنا ولا يقبل منهم ولا يصير إليهم لأنّه قد تحيّر لاستيلاء الشيطان عليه يهوى ولا يهتدي ."

   وجاء في تفسير النسفي صفحة 15 من سورة الأنعام قال : " {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ} كالذي ذهبت به الغيلان ومردة الجنّ {فِي الأَرْضِ} المهمه {حَيْرَانَ} أي تائهاً ضالاً عن الجادّة لا يدري كيف يصنع {لَهُ} لهذا المستهوي2 { أَصْحَابٌ } رفقة {يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى} إلى أن يهدوه الطريق ، سمّي الطريق المستقيم بالهدى ، يقولون له {ائْتِنَا} وقد اعتسف المهمّة تابعاً للجنّ لا يجيبهم ولا يأتيهم ، وهذا مبنيّ على ما يقال أنّ الجنّ تستهوي الإنسان والغيلان تستولي عليه ، فشبّه به الضالّ عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان والمسلمون يدعونه إليه فلا يلتفت إليهم ." إنتهى .

 -----------------------------------------------

 1 وإنّما قال تعالى (اسْتَهْوَتْهُ) ولم يقل أغوته لأنّ ابن نوح أحبّ فتاة منهم فقالوا له إبقَ معنا ونعطيك الفتاة ، فبقي معهم .

2 يلاحظ في التفسيرين أعلاه لم يبيّن أحدهما من هو هذا (الذي) ، ولم يعرف أيّ منهما شخصيّته ، لكنّ سماحة المؤلّف بيّنه ووضّحه ، وليس فقط العلاّمة الطبرسي والنسفي يجهلانه ، فإنّ البيضاوي في ص 266 لم يبيّن اسمه وكذا في الجلالين لم يذكر من هو المستهوى ، وكذا لم يبيّن اسمه الشيخ محمّد محمود حجازي في التفسير الواضح ، ومن كلّ ذلك يصبح سماحة المؤلّف أوّل من وضّحه –                             المراجع

 

73 – (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) أي الكواكب السيّارة والأرض1 (بِالْحَقِّ) أي بإتقان واتّزان (وَيَوْمَ) القيامة (يَقُولُ) لذلك الإتقان والإعمار (كُن) خراباً (فَيَكُونُ) وهو اليوم الذي تتمزّق فيه المجموعة الشمسية بأسرها (قَوْلُهُ الْحَقُّ) أي الصدق فما أخبر عنه كائن لا محالة (وَلَهُ الْمُلْكُ) فلا يملك في ذلك اليوم غيره لأنّ الناس كلّها تموت وتصعد الأرواح في الفضاء (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ) ذكرنا عن  الصور في كتابنا (الكون والقرآن) بالتفصيل (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) أي ما غاب عنكم وما حضر (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في صنعه (الْخَبِيرُ) بِما يكون .

-------------------------------------

1 تبويب الآيات الدالّة على  السماوات إلى أبواب وتوضيحها أوردها سماحة المؤلّف في أوّل كتابه (الكون والقرآن) مِمّا لا تجده فيما سواه من كتب –                                          المراجع

 

98 – (وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ) سبق تفسيرها في [أوّل] سورة النساء (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) المستقرّ هو بيت الأرحام استقرّت فيه النطفة والشاهد على ذلك قوله تعالى {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء} والمستودَع هو الجسم لأنّ الروح تكون فيه وديعة أي أمانة إلى يوم أجلها فتخرج منه وتنتقل إلى العالم الأثيري ، ولا تزال هذه العبارة مستعملة عند الناس فتسمع من بِه ضيم يقول ربّي خذ أمانتك ، يعني روحه . ويقول الآخر يكفيني هذا البيت حتّى يأخذ الله أمانته ، يريد روحه . (قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ) أي الدلالات التي تدلّ على قدرة الله وحكمته (لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) أي يعلمون .

103 – (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) البصر عين الروح وجمعه أبصار ، والمعنى لا تراه الأرواح بأبصارها ولا الأجسام بعيونِها (وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ) أي يراها ويدرك خيانتها ، ومثله قوله تعالى في سورة غافر {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} والمعنى أنّ الله تعالى يرى مخلوقاته وهي لا تراه ، ونظيرها قوله تعالى في سورة الأنعام {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} (وَهُوَ اللَّطِيفُ) بعباده (الْخَبِيرُ) في خلقه .

   وقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المؤمنين يرَون الله يوم القيامة واستشهدوا بقوله تعالى في سورة القيامة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ . إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .

   أقول ليس المقصود من كلمة {نَاظِرَةٌ} هو النظر إلى وجه الله تعالى بل المقصود منها الانتظار ، والمعنى إلى جزاء أعمالها منتظرة ، وكذلك قوله تعالى في الزمر {فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} ، أي ينتظرون جزاء أعمالهم ، وهذا في بادئ الأمر من يوم القيامة ، ثمّ يدخل المؤمنون الجنّة ويتنعّمون بنعيمها فحينئذٍ ينطبق فيهم قوله تعالى في سورة الغاشية {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ . لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} . فكلمة ينظرون معناها ينتظرون ، والشاهد على ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف حاكياً عن إبليس {قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ، أي أمهلني .

   فلو تراه العيون لرآه موسى بن عمران لَمّا أغراه قومه فقال ربِّ أرني أنظرْ إليك قال لن تراني . ولو تراه الأبصار لرآه حبيبه محمّد لَمّا عرِج به إلى السماء ، فمن قال بذلك فهو آثم .

105 – (وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ) في عقولكم لتفهموها ، أي نبيّنها لكم على التفصيل لتفهموها ، والآيات يريد بِها البيّنات والدلالات (وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ) قالت قريش لقد درس التوراة عند اليهود فجاءنا محمّد وادّعى النبوّة (وَلِنُبَيِّنَهُ) أي المتشابه من القرآن (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) في المستقبل ، يعني ولنبيّن تفسير المتشابه من القرآن لقومٍ يعلمون علم الفلك والصحّة والجغرافيا والهندسة والكيمياء وغير ذلك لأنّهم عارفون بالأشياء فيؤمنون بالحقيقة ويدرسونها دراسة دقيقة . ونظيرها قوله تعالى في سورة القيامة {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ، أي بيان ما اشتبه عليهم من القرآن .

108 – تشاجر رجل من المسلمين مع آخر من المشركين وكان المشرك ينحر هديه للبيت ، فقال المسلم إنّ الله لا يقبل هديك لأنّك مشرك ، فقال بل أنت لا يقبل هديك لأنّك كفرت بآلهتنا ، فأخذ المسلم في سبّه وسبّ أصنامه ، فغضب المشرك وسبّ الله . فنزلت هذه الآية (وَلاَ تَسُبُّواْ) المشركين (الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ) أي لا تسبّوهم مواجهةً وجهاً لوجه لأنّهم جهلة (فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا) أي بسرعة ، يقال جاءت الخيل تعدو ، أي جاءت مسرعة ، والمعنى يسرع في سبّ الله بدون إدراك ولا تأمّل فيما ينطق به من شدّة غضبه لأنّه جاهل في أمر الدين (بِغَيْرِ عِلْمٍ) من الحقائق (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) أي زيّنّا لهم أعمال الخير وزيّن لهم الشيطان أعمال الشرّ (ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ) يوم القيامة (فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) ويجازيهم عليها .

   وما أكثر الجهلة اليوم الذين يعتدون على الناس قصد السخرية والاستهزاء فيعتدون على رجل به بعض الجنون فيأخذ في سبّ الله وسبّ الأنبياء وهم يضحكون عليه ويسخرون منه .

   أو يعتدون على رجل كتابي فيسبّوه ويضربوه وهو لا يقدر على دفعهم عنه فيسبّ الله والنبيّ سرّاً وهم لا يعلمون .

   فالذي يعتدي على الضعفاء والمجانين ويكون سبباً لكفرهم وهو عالم بذلك يجب أن يهان ويُجلَد عشرين جلدة كي لا يعود إلى مثل ذلك .

111 – دعا النبيّ قريشاً إلى الإيمان فقالوا إمّا أن تنزل علينا ملائكة ً من السماء فتشهد بأنّك رسول الله فنصدّقك ، وإمّا أن تحيي آباءنا فتقعد  من القبور وتشهد أنّك رسول الله فنصدّقك ، وإمّا أن تأتينا وحوش الفلاة فتنطق وتشهد أنّك رسول الله فنصدّقك . فنزلت هذه الآية (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ) كما اقترحوه وشهدت لهم بأنّك رسول الله (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى) بعد إحيائهم بأنّك رسول الله (وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ) وحوش (كُلَّ شَيْءٍ) أي جمعنا لهم وحوش كلّ ناحية حولهم ، وجاءت (قُبُلاً) أي مقبلة تكلّمهم بأنّك رسول الله (مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ) بك يا محمّد لأنّهم يقولون سحرنا محمّد ، فلا يؤمنون (إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ) هدايتهم (وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) عاقبة المعجزات وما يؤول إليها أمرهم .

112 – (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا) وذلك ليشيع أمر النبيّ ويذاع خبره وينتشر في الأرض ذكره (شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ) أي دجّالين من الإنس ودجّالين من الجنّ ، فكلمة شيطان معناها دجّال محتال (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) يعني شياطين الجنّ توحي إلى شياطين الإنس وتعلّمهم الدجل والإغراء وذلك بالإيحاء لا بالكلام (زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) يعني يعلّمونهم القول المزخرف المعسول الذي يغري الناس ، وفي ذلك قال الشاعر :

يُعطيكَ مِنْ طَرَفِ اللّسانِ حلاوةً          وَيروغُ عنكَ كما يروغُ الثّعلبُ

 (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) وذلك بأن ينزّل عليهم الطاعون أو نوعاً آخر من العذاب فيهلكهم أجمعين ، ولكنّ الله تعالى أمهلهم وخلّى بينهم وبين ما يعملون لمصالح لا تعلمونها (فَذَرْهُمْ) أي اتركهم (وَمَا يَفْتَرُونَ) علينا من الأكاذيب .

113 ثمّ أخذ سبحانه في تسلية النبيّ ووعده بأنّ الكافرين سيصغون إلى القرآن في المستقبل إن لم يصغوا إليه اليوم وليقترفوا من علومه ما هم مقترفون اليوم ، وذلك قوله تعالى (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ) أي إلى استماع القرآن ، واللام لام العاقبة ، والمعنى في عاقبة الأمر تصغى إليه (أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ) يعني منكرو البعث إن كانوا لا يصغون إليه اليوم فسيصغون إليه في زمن المهدي (وَلِيَرْضَوْهُ) إن كان بعضهم لا يرضى به في زمانك يا محمّد (وَلِيَقْتَرِفُواْ) من علومه (مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ) اليوم ، والاقتراف معناه الاغتراف أي الإكثار منه ، ولكن الاغتراف يستعمل للمادّيات ، والاقتراف يستعمل للمعنويات ، فيقال اغترف الماء بيده ولا يقال اغترف حسنة ، بل يقال اقترف حسنة وذلك كقوله تعالى في سورة الشورى {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} . وهذه الآية معطوفة على ما سبق من قوله تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ..الخ)

115 – (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) بالنصر للمسلمين على الكافرين ، أي تمّ لكم النصر الذي وعدكم به ، فالكلمة يعني الجملة (صِدْقًا وَعَدْلاً) يعني كلماته صادقة لا خلاف فيها ولاتتغيّر ، وهي عادلة أيضاً فلا يُظلَم أحد بِها (لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ) يعني لا يقدر قوم أن يبدّلوا كلام الله الذي وعد به أولياءه من النصر مهما كثر عدد الكافرين وقلّ عدد المؤمنين (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم (الْعَلِيمُ) بأفعالهم .

121 – (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) يعني أوَ من كان تراباً وجماداً فأحيَيناه وجعلناه بشراً يبصر ويسمع ويعقل كالكافر الذي لا يبصر طريق الحقّ ولا يسمع الموعظة , والألف من قوله (أَوَ مَن) للاستفهام (وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا) وهو نور العقل ونور القرآن ونور الهداية (يَمْشِي بِهِ فِي) هداية (النَّاسِ) مستضيئاً به عاملاً الخير وداعياً إلى الله (كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا) أي كمن هو كافر والذي مَثَله كمثل الميّت المدفون في القبر والمختبئ في ظلماته لا يسمع ولا يبصر ولا يستفيد منه أحد وليس بخارج من تلك الظلمات ، والمعنى أتجعلون المؤمن الذي يفيد الناس ويرشدهم إلى الصلاح كالكافر الذي يضرّ الناس بجهله وعناده ولا ينفع أحداً كما أنّ المدفون في القبر لا يستفيد منه أحد (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) أي زيّنت لهم الشياطين أعمالهم .

123 – (وَكَذَلِكَ) أي كما جعلنا في مكّة أكابر يعني رؤساء (جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ) من (مُجَرِمِيهَا) أي جعلنا في كلّ مدينة رؤساء وأمددناهم بالمال والأولاد فطغَوا وتكبّروا على قومهم واستعبدوهم ومكروا بهم وذلك بسبب إجرامهم وظلم بعضهم بعضاً فسلّطنا عليهم الأكابر (لِيَمْكُرُواْ فِيهَا) أي في تلك القرية (وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ) لأنّ عاقبة مكرهم تعود عليهم ، لأنّ قومهم تمقتهم وتعاديهم وأخيراً يقع القتال بينهم فيقتل بعضهم بعضاً فيهلك أكثرهم (وَمَا يَشْعُرُونَ) أنّ عاقبة مكرهم تعود عليهم .

   جاء في الحديث القدسي قال الله تعالى : "الظالم سيفي أنتقم به ثمّ أنتقم منه ." ونظيرهذه الآية في سورة الإسراء {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} وأصلها أمّرنا بتشديد الميم اي جعلناهم أمراء وأكابر1   {فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} بالعذاب {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} .

 ---------------------------------------------

1 جاء في تفسير البيضاوي ص 477 "ويحتمَل أن يكون منقولاً من أُمِر بالضمّ إمارةً أي جعلناهم أمراء ، وأمّا في التفسير الواضح فقد صرّح بالتشديد إذ قال في المجلّد الثاني جزء 15 : "أمّرنا مترفيها أي جعلنا أغنياءها حكّامها وقادتها "      المراجع                                                                   

 128 – (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) أي نجمعهم (جَمِيعًا) الجنّ والإنس وذلك يوم القيامة فنقول للشياطين (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ) أي قد أغويتم كثيراً من الإنس ، فيقولون أمرنا بذلك أبونا فامتثلنا أمره ، وأبوهم هو إبليس ، ثمّ يوجّه السؤال إلى الإنس الذين اتّبعوا الشياطين ولم يؤمنوا بالرسل فيقول لهم لماذا لم تؤمنوا برسلي ولم تتّبعوهم فيقولون ربّنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيل (وَقَالَ) أيضاً (أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ) يعني وقال الإنس الذين اتّبعوا الشياطين (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ) أي استمتعنا برؤسائنا واستمتع رؤساؤنا بنا فلم نتمكّن أن نتركهم ونتّبع الرسل وذلك لأنّنا تعوّدنا الجلوس معهم واستمتعنا بحديثهم ، وقد أمرونا أن نعادي الرسل ونطردهم من أرضنا (وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا) يعني وقد أمهلتنا وبقينا أحياء حتّى جاء أجلنا بالموت ولم تعاقبنا في ذلك الوقت حين كذّبنا الرسل لنعلم أنّ ذلك العقاب كان بسبب تكذيبنا لهم (قَالَ) الله تعالى (النَّارُ مَثْوَاكُمْ) أي مصيركم ومقامكم (خَالِدِينَ فِيهَا) أي دائمين فيها . ثمّ استثنى المذنبين من الموحّدين فقال (إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ) أن يعفو عنه بعد تعذيبه (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) في أفعاله (عَليمٌ) بعباده .

137 – (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ) الشيطان (لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ) فكان بعضهم يذبح ابنه قرباناً للأصنام ، وبعضهم يلقيه في النار وبعضهم ينذر لَها ثمّ يقرّب ابنه أو ابنته وفاءً لنذره 1 ، أمّا قريش فكانت تدفن بناتها وهي حية خوف العار ، وكانت غايتهم من ذلك (شُرَكَآؤُهُمْ) أي يذبحون أولادهم لأجل شركائهم (لِيُرْدُوهُمْ) أي ليوقعوهم في الردى ، والمعنى : زيّنت لهم الشياطين قتل أولادهم ليوقعوهم في الردى (وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ)  أي وليلتبس عليهم دينهم الحقيقي ، لأنّهم كانوا قبلاً على دين إبراهيم فأغرتهم الشياطين وغيّرت دينهم (وَلَوْ شَاء اللّهُ) هدايتهم (مَا فَعَلُوهُ) ولكن خلّى بينهم وبين أعمالهم لأنّهم ظالمون (فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) أي اتركهم وما يكذبون به على الله فسيلقَون جزاء أعمالهم .

---------------------------------------------

 1 وذلك ما صنعته بنو إسرائيل وأثبتته التوراة في أماكن متعدّدة مِمّا مهّد ذلك في انقراض نسلهم وقطع دابرهم وأخصى نبوخذنصّر بقيّتهم –                                         المراجع

 

154 – (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا) إنّ أوّل ما جاء به موسى هي التوراة وهي عشر كلمات مكتوبة على لوحين من حجر ، ثمّ نزلت عليه أحكام وقوانين في الدين متفرّقة بالتدريج ، فكان موسى يعطيها إلى هارون فيكتبها في الرقّ . ومعنى الآية ثمّ أنزلنا على موسى أحكاماً  في الدين حتّى تمّ الكتاب ، وذلك (عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ) وهو هارون أحسن مع قومه (وَ) كان الكتاب (تَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ) من أمور الدين (وَهُدًى وَرَحْمَةً) لبني إسرائيل (لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) أي يصدّقون .

آراء المفسّرين

   جاء في كتاب مجمع البيان صفحة 385 المجلّد الرابع قال : "{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} قيل في معنى{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} ، مع أنّ كتاب موسى قبل القرآن ، ثمّ يقتضي التراخي وجوه (أحدها) أنّ فيه حذفاً وتقديره ثمّ قل يا محمّد آتينا موسى الكتاب ، بدلالة قل تعالَوا (وثانيها) أنّ تقديره ثمّ أتلُ عليكم (آتينا موسى الكتاب) ، ويكون عطفاً على معنى التلاوة ، والمعنى قل تعالَوا أتلُ ما حرّم ربّكم عليكم ثمّ أتلُ عليكم ما آتاه الله موسى ، عن الزجاج (وثالثها) أنّه عطف خبر على خبر لا عطف معنى على معنى وتقديره ثمّ أخبركم أنّه أعطى موسى الكتاب (ورابعها) أنّه يتّصل بقوله في قصّة إبراهيم ووهبنا له إسحاق ويعقوب فعدّ سبحانه نعمته عليه بِما جعل في ذرّيته من الأنبياء ثمّ عطف عليه بذكر ما أنعم عليه بما آتى موسى من الكتاب والنبوّة وهو أيضاً من ذرّيّته ، عن أبي مسلم واستحسنه المغربي . {تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ} قيل فيه وجوه (أحدها): تماماً على إحسان موسى فكأنه قال ليكمل إحسانه الذي يستحق به كمال ثوابه في الآخرة عن الربيع والفراء و(ثانيها): تماماً على المحسنين عن مجاهد. وقيل: إن في قراءة عبد الله تماماً على الذي أحسنوا فكأنه قال تماماً للنعمة على المحسنين الذين هو أحدهم والنون قد تحذف من الذين ، ويجوز أن يكون الذي للجنس ويكون بمعنى من أحسن و(ثالثها): أن معناه تماما ًعلى إحسان الله إلى أنبيائه عن ابن زيد و(رابعها): أن معناه تماماً لكرامته في الجنة على أحسانه في الدنيا عن الحسن وقتادة: وقال قتادة تقديره من أحسن في الدنيا تمت عليه كرامة الله في الآخرة و(خامسها): أن معناه تماماً على الذي أحسن الله سبحانه إلى موسى بالنبوة وغيرها من الكرامة عن الجبائي و(سادسها): ما قاله أبو مسلم أنه يتصل بقصة إبراهيم فيكون المعنى تماماً للنعمة على إبراهيم ولجزائه على إحسانه في طاعة ربه وذلك من لسان الصدق الذي سأل الله سبحانه أن يجعله له ولفظة على تقتضي المضاعفة عليه ولو قال تماماً ولم يأت بقولـه على الذي أحسن لدل على نقصانه قبل تكميله. " إنتهى . 1 وجاء في تفسير النسفي مثل هذه الأقوال أيضاً . إنتهى .

-----------------------------------------------------

1 سماحة المؤلّف إذ يبيّن آراء المفسّرين فيما عرض ويعرض له , إنّما ليدع للقارئ فرصة المشاركة والمقارنة ليكون على بيّنة ويتّبع الحقّ أنّى وجده –                                          المراجع

 

158- قالت كفّار قريش للنبيّ لن نؤمن لك حتّى تنزّل علينا ملائكةً يشهدون أنّك رسول الله أو يأتي ربّك فيشهد بذلك أو تشقّ القمر نصفين فنراه بأعيننا , فنزلت هذه الآية (هَلْ يَنظُرُونَ) أي هل ينتظرون (إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ) فتشهد لهم على صحّة نبوّتك فحينئذٍ يؤمنون (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) فيشهد لك كما اقترحوه عليك (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) التي هي من علائم الساعة ومن تلك العلائم إنشقاق القمر (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) وهي انشقاق القمر (لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا) في ذلك الوقت ، إن (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ) حدوث تلك الآية (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) يعني أو لم تكن كسبت في إيمانها خيراً ، والمعنى إن لم تكن أعمالها صالحة وأرادت أن تتوب عن غيّها وتعمل الصالحات في ذلك الوقت لا تُقبَل توبتها (قُلِ) يا محمّد لهؤلاء المشركين (انتَظِرُواْ) حدوث تلك الآيات حيث لا ينفع إيمانكم في ذلك اليوم (إِنَّا مُنتَظِرُونَ) موتكم كي نعذّبكم في عالم البرزخ فأيّنا أجله أقرب ؟

تمّ بعون الله تفسير سورة الأنعام في 14 رمضان سنة 1383 هجرية

ويليها تفسير سورة الأعراف

 

الصفحة الرئيسية

الصفحة الأولى

سورة الفاتحة

سورة البقرة 1

سورة البقرة 2

سورة آل عمران

سورة النساء

سورة المائدة

سورة الأعراف

سورة الأنفال

سورة التوبة

سورة يونس

سورة هود

    Man after Death   An Hour with Ghosts   The Universe and the Quran   The Conflict between the Torah and the Quran   الخلاف بين التوراة و القرآن     الكون والقرآن   المتشابه من القرآن   ساعة قضيتها مع الأرواح