كتاب الإنسان بعد الموت الصفحة
الرئيسة
موت
أم إغماء ؟
وهذه القصّة ذكّرتني حادثة وقعت لي في زمان
طفولتي أذكرها كشاهد على ذلك فأقول :
إعلم أيّها القارئ الكريم
أنّ قصّتي هذه ليست قصّة خيالية ، ولا رواية تمثيلية ، إنّما هي قصّة حقيقية ،
وحادثة زمنية وقعت لي في زمن طفولتي ، وكان عمري حينذاك سبع سنين ، وكان أهلي
يسكنون في مدينة كربلاء ، فسقطت من مكان مرتفع في دارنا ، وعند سقوطي على الأرض
شعرت كأنّي كنت في قفص فخرجت منه ، والقفص هو جسمي وأنا أصبحت روحاً ، فرأيت
الأرواح وتكلّمت معهم كما أتكلّم مع الأحياء ، ورأيت أشياء لم أكن أعهدها من قبل ،
فعجبتُ مِمّا رأيت ، ثمّ عدتُ إلى قفصي بعدما قضيتُ ساعة في عالم الأرواح وفتحتُ
عيني وإذا أنا في حجر أمّي ، فقصصتُ لَها ما وقع لي وما رأيتُ في ذلك العالم
الغريب ، فعجبَتْ من ذلك وأخبرَتْ به والدي عند مجيئه إلى الدار ، ولم أكن أعلم
حينذاك شيئاً عن الأرواح .
وقد نسيتُ تلك الحادثة
بعد أيّام من وقوعها ، ثمّ تذكّرتُها بالتفصيل بعد سنّ الأربعين من عمري ، وأحمد
الله الذي أراني الأرواح في زمن طفولتي وذكّرني بِها في زمن كهولتي لأكون من
الموقنين .
كان بيتنا قرب صحن
العبّاس في كربلاء ، وقد شقّه بعد ذلك الشارع الذي يسمّى اليوم بشارع علي أكبر ،
وكان لنا حمّام مقابل دارنا هذه يسمّى بِحمّام (شنطوط) وفي دارنا يوجد نيم سرداب
فيه رفّ يرتفع عن أرض السرداب بمقدار متر ، وتحت الرفّ درج تتّصل بأتون الحمّام .
وفي يوم من أيام الصيف
رغبت أن أنام على ذلك الرفّ ، فنهتني أمّي عن ذلك وقالت "إن نمتَ على هذا
الرفّ تسقط إلى أسفل الأتون وتموت ." فلم أنتهِ عن رغبتي ولم ألتفت لقولِها ،
ثمّ استغفلت والدتي بعد أن ذهبتْ عنّي لقضاء أشغالِها وصعدتُ ونمتُ على ذلك الرفّ
، وكنت أقلّب في نومي فسقطتُ من الرفّ على رأسي فوق الدرج التي تحت الرفّ ، وعند
وقوعي شعرتُ كأنّي كنتُ في قفص فخرجتُ منه ، والقفص هو جسمي وقد أصبحتُ روحاً من
الأرواح ، وصعدتُ من الدرج إلى السرداب أقفز كالعصفور ؛ إذْ كانت ساقاي فيهما
تجاذب ولا أستطيع أن أرفع رجلاً وأضع أخرى لكي أصعد من الدرج ، وتركت جسمي ملقىً
على الدرج .
ثمّ نظرتُ إلى نفسي فإذا
أنا عريان[1] فاستحييتُ
مِمّا أنا فيه والتفتُّ يميناً وشمالاً لعلّي أجد ثوباً ألبسه وأستر به عورتي ،
فرأيتُ ثوباً من ثيابي (دشداشة) ملقىً على الأرض قرب الجدار فمددت إليه يدي لكي
ألبسه فلم أتمكّن من حمله مع أنّي كنت ألمسه وأشعر بوجوده ولكن لا أستطيع حمله من
الأرض فعجبت من ذلك ، ولَمّا عجزت عن حَمل الثوب التفتّ إلى الوراء لأرى أحداً
أسأله عن السبب فإذا بفتاة (وهي من الأرواح) تحمل بيدها بضعة ثياب تصلح للأطفال
فقالت : "ما بالك ؟" قلت : "أريد أن ألبس ثوبي هذا ولكن لا
أستطيع" فقالت : "اتركه وخذ ثوباً من عندي والبسه" ، وناولتني
ثوباً أبيض ناصع البياض ، فخلته كفناً واشمأززت منه فرددته عليها وقلت : "لا
أريد هذا الثوب لأنه يشبه الكفن في بياضه ، فناولتني ثوباً آخر مخطّطاً بألوان
فأخذته منها ولبسته وسترت به عورتي ولكنّه كان قصيراً لا يتجاوز ركبتيّ ، فقلت
لَها : "هذا ثوب قصير" ، قالت : "البسه مؤقّتاً حتّى أعطيك ثوباً
أطول منه ."[2]
ثمّ
قالت : "هل تريد ماءً لتشرب ، قلت :
"لا أريد " ، قالت : "ألست عطشاناً ؟" قلت : "كلاّ
" ، فجاءت بكأسٍ كالبلّور وفيه ماء فقالت : "أنظر إلى هذا الماء فإنّه
لذيذ الطعم كالشربت [: العصير] فإنْ شربتَ منه لا تظمأ بعده أبداً
" ، وهكذا أخَذَتْ تحثّني على شربه فأخذتُ الكأس منها وشربتُه ، ولَمّا شعرتُ
ببرودته وطعمه اللذيذ لم أترك في الكأس شيئاً منه وناولتها الكأس فارغاً ،
ثمّ قالت : "هذا
عمّك علي تعال سلّمْ عليه" ، وأشارت إلى شابٍّ كان واقفاً في
السرداب ، فنظرتُ إليه فتبسّم في وجهي ودعاني إليه ، ولكنّي لم أذهب إليه ولم
أرغبْ في مكالمته لأنّي لم أعرفْه ولم أكنْ قد رأيتُه من قبل ولم أعلم أنّ لي
عمّاً اسمه علي مات قبل أن أولَد ، وكذلك الفتاة لم أعرفْها ولكنّها قالت لي :
"أنا أختك ."
وجاءت
والدتي مسرعة لَمّا سمعت صوت الوقعة ونزلَتْ إلى أتون الحمّام ورفعت جسمي
من على الدرج وصعدتْ به إلى السرداب ، فجلست على الأرض واحتضنَتْه وصارت تقبّله
وتمسح الدم عن وجهه وتبكي وهي تخاطبه باسمي ، فجاءت عمّتي وجلست عندها ، ثمّ جاءت
بنت عمّي وأخذتْ قطعة من الصوف وأشعلَت فيها النار فلَمّا اشتعل نصفها أخمدَتها
فوضعَتها فوق الجرح الذي كان يسيل منه الدم[3] وجاءت عمّتي بعُصابة
سوداء فشدّت بِها رأس جسمي وجلسْنَ عنده يخاطبنه ، ثمّ قامت عمّتي وجاءت بالماء
وصارت ترشّه على وجهه ولكنّ جسمي كان كالميّت لا يتحرّك بأدنى حركة .
كلّ هذا وأنا واقف أنظر
إليهنّ متعجّباً من فعلهنّ بالجثّة التي بين أيديهنّ ، وقلت في نفسي "إنّ
والدتي قد اختلّ فكرها وتاه لبّها فهي تخاطب هذا الطفل الميّت باسمي وتقبّله وتبكي
عليه فهل لا تراني واقفاً أمامها وهل هذا الطفل ابنها أم أنا ؟
ثمّ دنوتُ منها وصرت
أخاطبها وأشير لَها بيدي اليسرى وأقول : "أنا إبنكِ ، أنا محمّد علي ، ألا
ترَيني واقفاً أمامكِ ؟ إني سالم لا أشكو وجعاً من رأسي ولا عضواً من أعضائي"
. ولكنّها لم تسمعني ولم تلتفت إليّ ، فكرّرت لَها القول ورفعت صوتي لعلّها تسمعني
وتراني ولكن دون جدوى .
فحزنت لِحالِها وكدتُ أبكي ، فتقدّمت منّي تلك
الفتاة التي أعطتني الثوب في عالم الأرواح وقالت : "ما بالك حزين؟" ،
قلت : "ألم تنظري إلى والدتي تبكي وتندب ؟" ، فقالت : "أتركها
لِحالِها واذهب إلى التنزّه واللعب فإنّها ستترك البكاء بعد ساعة ."
فلمّا أردتُ الخروج من السرداب إذا بساقَيّ لا تساعدانني على المشي ولا يمكنني أن
أرفع رجلاً وأضع أخرى فكأنّهما قيّدتا بالقيود أو رُبطتا بالحبال[4] فقلت لتلك الفتاة :
"لا أتمكّن من المشي والخروج من السرداب ولا أعلم ما الذي أصاب ساقَيَّ
فكأنّهما رُبِطَتْ إحداهما بالأخرى" ، فقالت : "أترك المشي على الأقدام
وانطلق كالطير" ، فلم أفهم ما تقول فقلت : "وهل يسير الإنسان بدون أقدام
؟ وكيف أنطلق وساقاي قد شُلّتا وبطلتا عن الحركة ؟" ، فأرادت أن تُفهمني
مقصودها فأخذتْ تعبّر بكلمات أخرى بدل كلمة الانطلاق فلم أفهم مقصودها ، ولَمّا
عجزتْ عن إفهامي قالت : "أنظرْ إليّ كيف أنطلق وانطلق مثلي بدون أن ترفع
قدماً وتضعَ أخرى" ، وانطلقتْ في الهواء كالطير ولكن بدون جناح ، فتعلّمتُ
منها وانطلقتُ وتركتُ أمّي تبكي وخرجتُ من السرداب قاصداً الزقاق لأتسلّى باللعب
عَمّا أشاهده من حال أمّي والجثّة التي احتضنتْها .
فلمّا وصلتُ باب الدار رفعتُ يدي اليسرى
وأدخلتُ أصابعي الأربع في حلقة الباب وبقي الإبهام خارجاً وسحبتُها كما كنتُ
أفتحها كلّ مرّة ، ولكن في هذه المرّة لم تنفتح الباب ومرّة ثانية لم تنفتح وفي
الثالثة سحبتُها بكلّ قواي فتقطّعت أصابعي من ذلك وزاد تعجّبي لَمّا رأيتُ أصابعي
معلّقة في الهواء لم تسقط على الأرض ولم يخرج منها دم ، فكانت كالشمع في مرونته
وقتَ الصيف ، فبقيتُ متحيّراً أسائلُ نفسي كيف أفتح الباب وقد تقطّعت أصابعي ،
ولماذا لا أقوى على فتحها اليوم وقد فتحتُها من قبل مراراً عديدة ، وكبف تقطّعت
أصابعي بسهولة وقد كانت قويّة ، ولِماذا لم يخرج منها الدم وقد كان خروجه لأقلّ
خدش يصيبها .
فبينما أنا واقف أفكّر في
أمري وإذا بالفتاة أقبلت نحوي فقالت : "ما بالك في حيرة ؟" ، قلتُ :
"لقد تقطّعتْ أصابعي ولم أتمكّن من فتح الباب" قالت : "لا تحزنْ
على ما أصابك فالأمر هيّن ولا يحتاج إلى تكدير الحال : أمّا اصابعك فضعها في
أماكنها على راحة كفّك تعُدْ كما كانت ، وأمّا الباب فإنّك لا تستطيع فتحَها فإنْ
شئتَ الخروج من الدار فاخرجْ من شقوق الباب"
، فقلت لَها : " أتسخرين منّي وأنا في هذه الحال !؟" ، قالت :
"لستُ بساخرة وإنّما أقول الحقيقة" ، قلت في تعجّب : "هل يمكن ذلك
وهل أستطيع عليه ؟" ، قالت : "بلى" ، فمددتُ يدي اليمنى وأخذتُ
أصابعي المتقطّعة من الهواء واحداً بعد الآخر ووضعتُها في أماكنِها على راحة كفّي
اليسرى فالتصقت بِها حالاً كما تلتصق قطع الشمع بعضها بالبعض في زمن الصيف وعادتْ
يدي سالمة كما كانت ففرحتُ بسلامتها ، فقالت الفتاة : "والآن ضَعْ رأسك في
أحد شقوق الباب واخرج إلى الزقاق" ، فظننتُ أنّها تسخر منّي فقلتُ لَها
بانزعاج : "هل أنا مجنون فتسخرين منّي ؟" ، قالت : "لستُ بساخرة ؛
ألم ينطبق قولي في أصابعك وعادتْ يدك سالمة كما قلت لك فكذلك ينطبق في خروجك من
شقوق الباب وسترى أنّ ما أقوله هو حقيقة وليس بسخرية " ، فوضعتُ رأسي في أحد
شقوق الباب وإذا بي أنساب من الشقّ كما تنساب ذرّات الرمل من بين الأصابع ، وكانت
ذرّات جسمي الأثيري تنجذب بعضها إلى بعض وكلّها تتبع رأسي كبرادة الحديد التي
تنجذب نحو المغناطيس ، وفي نصف دقيقة أو أقلّ خرجتُ من باب الدار إلى الزقاق .
فوقفتُ قرب الباب وصرت
أنظر إلى الناس وهم يسيرون قي ذلك الزقاق المؤدّي إلى سوق العبّاس ، فرأيت بعضهم
عراة (أرواح) وبعضهم يرتدي ثياباً قصيرة وسيقانهم مكشوفة فإذا صار طريقهم في الشمس
اختفوا عن بصري وإذا صاروا في الظلّ رأيتُهم بوضوح يسيرون في الطريق ، ورأيت بعضهم
يسيرون وليس لَهم أقدام بل لَهم حوافر مثل حوافر الخيل ، ولَمّا سألتُ عنهم قالوا
هؤلاء من الجنّ .
فبينما أنا واقف متعجباً
مما أرى وأنا أنظر إلى المارّة وإذا بريح تهبّ على ذلك الطريق فرفعتني من مكاني
وصارت تدفعني بسرعة وكلّما حاولتُ أن أقاوم الريح وأثبت في مكاني فلم أتمكّن ـ
فكنتُ كورقة قرطاس في خفّتها تنقلها الرياح من مكانٍ إلى آخر ، ثمّ ألقتني على
الأرض فاصطدمتُ بكرسي كان في المقهى القريب من دارنا ، وكانت الصدمة في ركبتي
اليسرى ، فتألّمتُ ألماً شديداً وبقيت في مكاني بضع دقائق جالساً جنب الكرسي[5]
وكانت رجلي المصدومة ممدودة إلى جانب الكرسي وقد فصلتُها عن الثانية بصعوبة ، فجاء
رجلٌ من الأحياء ليجلس على الكرسي الذي أنا بجانبه فوطأ قدمي برجله وحذائه ،
فزادني بذلك ألماً فسحبتُ رجلي ونهرته قائلاً : "هل أنت أعمى ؟ لقد سحقت قدمي
برجلك ؛ ألا تراني جالساً هنا ؟" ، فلم يجبني بكلمة واحدة ، ثمّ عاودت عليه
اللوم فلم يسمع ولم يلتفت إليّ ؛ غفلتُ في نفسي : "ما بال الناس لا يسمعون
ولا يبصرون في هذا اليوم ، وبقيت في مكاني حتّى زال الألم وسكنت الرياح فقمنُ متعجّباً
مِمّا شاهدتُه في ذلك اليوم وزاد عجبي لَمّا رأيتُ نفسي خفيفاً كالهواء ويمكنني أن
أطير بلا جناح .
فأنهضتُ نفسي إلى فوق فارتفعتُ إلى علوّ
مترَين أو ثلاثة ودخلتُ سوق العبّاس وأنا فرح مسرور بنفسي لِما أشاهدُهُ من
استطاعتي على الطيران ثمّ قلت في نفسي : "هل أستطيع أن أرتفع أكثر من هذا
؟" فأنهضتُ نفسي وارتفعتُ وصرتُ أطير على علوّ أربعة أو خمسة أمتار ، فرأيتُ
طيور حمام واقفات على أعواد سقف السوق ، فصارت رغبتي أن أمسك واحدةً منها ، فدنوتُ
منها وهي لا تراني طبعاً فمدَدْتُ يدي اليسرى وأمسكتُ طيراً منها ، فكنتُ أشعر
بالطير تحت يدي وفي قبضتي ولكنّي لم أتمكّن من إخضاعه وإيقافه عن المسير فوق
الأعواد بل تقطّعت أصابعي أنملةً أنملةً بقوّته وحركته وفلتَ الطير من قبضتي وأخذ
يمشي على الأعواد ويهدر على أنثاه ، وبقيت أناملي معلّقة بالهواء لم تسقط على
الأرض[6] فعجبتُ
من ذلك وبقيت في حيرةٍ من أمري وحزنتُ مرّة أخرى على ذهاب أصابعي ، ثمّ تذكّرتُ ما
جرى لي حين أردتُ فتحَ الباب إذْ تقطّعتْ أصابعي فأرشدَتني تلك الفتاة إلى
إعادتِها في مكانِها ، ثمّ مدَدتُ يدي اليمنى وأخذتُ الأنامل من الهواء واحدةً
بعدَ الأخرى و ردَدتُها إلى أماكنِها فالتصقَت بِها حالاً وعادتْ سالمة كما كنتُ
فسررتُ بِها وزال حزني ، ولكن بقيت أفكّر في الطيور وأيّها أمسك ولم أكترثْ بِما
أصابني مِنها من أذى ، فبينما أنا أفكّر فيها طار واحد من تلك الطيور فرفعتُ يدي
اليسرى لأمسكه فوقعتْ كفّي اليسرى على عضدي الأيمن فاخترقتها ، ولكنّها اخترقت
مكان اللحم دون العظم ، ولَمّا رفعتُ كفّي عنها التحمَتْ وعادت كما كانت ، فعجبت
من ذلك ، ثمّ ضربتُ عضدي مرّة ثانية للتأكّد فاخترَقتْها ، ومرّة ثالثة فكانت
النتيجة واحدة ، فكان جسمي الأثيري كالزبدة في الصيف عندما تنزل السكّين فيها
بسهولة ثمّ تلتحم إذا رُفعَتُ عنها .
وبينما أنا واقف في
الهواء أفكّر في ذلك وإذا بطير يطير نحوي صدفة فاخترق بطمي وخرج من ظهري ـ فقصمتني
ضربته نصفَين ودَفعتْ بالنصف الأسفل إلى حوالَي ثلاثة أمتار بعيداً عنّي وغُشي
عليّ من شدّة الألم[7] فلمّا أفقتُ رأيتُ نفسي
بلا عجز ولا رجلين ، فنظرتُ يميناً وشمالاً فرأيت زجليّ خلفي واقفات في الهواء
وكان الهواء يحرّكها بحركة خفيفة ، وكان جسمي الأثيري شفّافاً يشبه زلال البيض قبل
نضجه[8] فعجبتُ
مِمّا أرى ومِمّا أنا فيه ، وبقيتُ في حيرة كيف أُرجع رجلَيّ إلى جسمي ، وهل يعود
جسمي كما كان وقد أصبح نصفين ، وكيف بقيتُ حياً لم أمت وأما في هذه الحال .
فبينما أنا أفكّر في أمري وإذا برجل عريان
يصعد نحوي وهو يطير في الهواء بلا جناح ، فاشمأزّتْ نفسي منه وخفتُ منه في بادئ
الأمر إذ ظننتُه مجنوناً لأنّ عورته بادية للعيان ، ولَمّا اقترب منّي أخذ يكلّمني
فيما أنا فيه ويرشدني إلى إصلاح شأني ، فحينئذٍ ذهب الخوف عنّي إذ علمتُ أنّه ليس
بمجنون ،
فقال : "ما صنعتَ بنفسك ؟"
قلتُ له : "صنع بي ذلك الطائر" ،
قال : "أترك الطيور واذهب إلى أهلك
فأنتَ روح ولا يمكنك أن تقبض عليها" (وكان الكلام ما بيننا باللهجة العامّية)
كما كنتُ أتكلّم وأنا في حسمي المادّي .
فقلتُ له : "وما معنى روح ؟" ،
قال : "أنت ميّت لا تتمكّن من أنْ تقبض
على الطيور" ، فلم أفهم معنى قوله فظننتُ أنّه يقول إنّ الطير أماتك بضربته ،
فقلتُ : "إنّي لم أمت من ضربة الطير ولكنّه
قصمني نصفين كما ترى ، فهل يمكنك أن ترجع إليّ رجلَيّ ؟"
قال : "إنّها لا تأتي إليكَ ولكن يمكنك
أنْ تذهبَ أنتَ إلَيها" ،
فقلتُ : "كيف أذهب إليها وليس لي أرجل
أمشي بِها ؟"
قال : "انطلق بدون أرجل" ، قلت :
"وكيف يسير الإنسان بدون أرجل؟ " ، فلمّا رأى أنّي لم أفهم مقصده أخذ
بيدي وقادني إلى حيث كانت رجلاي فأوقفني عليهما وساواهما مع جسمي الأثيري فالتصقتا
به في الحال فكانت كالشمع إذا ألصقتَه بقطعة أخرى وعدتُ صحيحاً ،
فعجبتُ من ذلك وقلتُ له : "هل لديك
قطعة قماش تضمّدني بِها أو دواء ترشّه على جرحي لئلاّ ينفصل مؤخّري عن جسمي مرّة
أخرى ؟"
فقال : "لا حاجة إلى ذلك ."
ثمّ سألته عن حاله فقلتُ له : "لماذا
أنتَ عريان ، مالك من ثوب تلبسه أو لباس تستر به عورتك ؟ "
قال : "إنّهم لم يعطوني" ،
فقلت : "إشترِ من السوق" ،
فقال : "ليس هنا بيع ولا شراء" [9]
فلم أفهم معنى كلامه .
ثمّ تركني وانصرف بعد أن أوصاني أن أترك
الطيور وأرجع إلى أهلي ، وأنا أنظر إلى ظهره وجسمه العريان يلمع كالبلّور أو كمعدن
طُلي بالفسفور فصار يعطي شعاعاً ، فعجبتُ من حاله وقلتُ في نفسي : "هل هذا
الرجل فقير لا يملك ثوباً ؟ كلاّ فإنّ الفقراء يسترون عوراتهم ولو بخرقة من القماش
، أو لعلّه مجنون ؛ ولكنّ المجانين لا يرشدون الناس إلى إصلاح حالِهم بل يؤذونهم ،
وقد أرشدني هذا الرجل وأسعفني ولم أرَ منه قطّ أذى ."
ثمّ صرفتُ نظري إلى نفسي
أتأمّل فيها : فإذا أنا لا أستنشق الهواء كما كنت في السابق ، بل رئتاي ساكنتان هادئتان
لا شهيق ولا زفير [10] فعجبتُ لِما أنا فيه ،
واستنشقتُ مقداراً من الهواء للاختبار فلَمّا دخل الهواء جوفي أحسستُ بثقل في جوفي
أزعجني فنفَثتُه من جوفي حالاً واسترحت منه .
ثمّ فطنتُ إلى
عينَيّ وإذا هما لا يرتدّ إليهما طرفهما كما كنت سابقاً ولكنّي إذا أردتُ أن
أغمضهما يمكنني ذلك ، وإذا أردتُ أنْ أدير ببصري يميناً وشمالاً فلا أتمكّن بلْ
عيناي شاخصتان إلى الأمام[11] .
وبعد هذه الحوادث أزعجني
الدخان المتصاعد من المطاعم وبائعي الكباب ، فنزلتُ وعدتُ أطير على ارتفاع مترين
أو أكثر من ذلك حتّى دخلتُ جامع العباس فدرتُ حوله نصف دائرة ، أي كنتُ أطير في
الجهة التي فيها الظلّ ، أمّا الجهة التي تقع عليها أشعة الشمس فلم أتمكّن أنْ
أذهب إليها لأنّ شعاع الشمس يغلب على بصري فلا أرى طريقي بل أكون كالأعمى لا أرى
شيئاً .
وهكذا ذهبتُ وأنا طائر
والناس تحتي ما بين ماشٍ وقاعد وبين راكعٍ وساجد لا يراني أحدٌ منهم سوى الأرواح
والجنّ ، وكنتُ حينها أتجنّب كلّ طائرٍ يتّجه نحوي فأزول عنه لئلاّ يمزّق أحشائي
بصدمتِه مرّةً أخرى ، وكنت أرتاح إذا صار طريقي في مكانٍ مظلم أو في الظلّ ، وكنت
أرى من بعيد ويكون بصري قوياً[12] أمّا إذا صار طريقي
في الشمس فأكون هناك كالأعمى لا أرى شيئاً سوى غشاءٍ أبيض يكون على بصري[13]
وإذا صار طريقي في مكانٍ كثير الضياء فكنت هناك لا أرى إلاّ الشيء القريب منّي ،
وكانت الشمس تزعجني كثيراً ، ولَمّا كان صحن العباس مكشوفاً والشمس تشرق عليه فقد
أزعجتني أشعّتها وآذتني حرارتُها والطيور تخاطفتني عن يميني وعن شمالي وأنا أحاذر
منها ، فتركتُ الصحن و رجعتُ إلى الدار من الطريق الذي جئتُ منه فرأيتُ والدتي
جالسة في مكانِها وجسمي المادّي لم يزلْ في حجرها وهي تبكي وتقول : "مات
ابني" فتخاطبها عمّتي وتقول لَها : "لا تبكي ؛ لقد أغمِيَ عليه وليس
بِميّت" فتجاوبها والدتي وتقول لَها : "لقد مضى عليه ساعة من الزمن ولم
يفق من إغمائه وقد رششنا على وجهه الماء فلم ينتبه ولذعناه بالعطّابة فلم ينتبه
وإذاً هو ميّت ." فتجاوبها عمّتي وتقول لَها : "إلمَسي رجليه فإنّهما
ساخنتان فلو كان ميتاً لبرد جسمه" وهكذا كانت المحاورة بين عمّتي ووالدتي .
فلمّا سمعتُ بكاء والدتي ومحاورتها مع عمّني
خفتُ من ذلك المشهد ومن تلك المحاورة وقلتُ للفتاة التي أعطتني ثوباً : "ما
بال والدتي تبكي وتندب وتقول مات إبني؟ " فقالت : "ألست ميّتاً ؟ "
فأجبتها بعصبيّة وحدّة : "كلاّ أنا حيٌّ لم أمُتْ ولن أرضى بالموت ولا أريد
أن أموت " قالت : "إذاً ستعود إلى جسمك" قلتُ : "أين جسمي؟
" قالت : "ألا تراه في حجر أمّك وهي تبكي عليه ؟ "
فحينئذٍ عرفتُ أنّ ذاك هو
جسمي وإنّما أنا روح كما قال لي ذاك الرجل العريان الذي أسعفني ؛ حينئذٍ خفتُ من
الموت ومن انتهاء أجلي فقلتُ قي نفسي : "سأعود إلى جسمي وأرى هل يستوي جالساً
أمْ يبقى على حالته : فإنْ جلس فقول عمّتي هو الصحيح وأنا حيّ ، وإنْ بقِيَ على
حالته فهو ميّت وقول أمّي هو الصحيح " ، ثمّ سألتُ الفتاة : "كيف أعود
إلى جسمي ومن أيّ مكانٍ أدخل ؟ " قالت : "أدخل من منخر أنقه " ،
قلتُ : "وكيف يمكنني هذا وهو ثقبٌ صغير؟ " ، قالت : "كما أمكنك
الخروج من شقوق الباب كذلك يمكنك الدخول من ثقب الأنف" .
فلمّا رأت أني عازم على العودة لِجسمي قالت
: "إذا كنتَ عازماً على العودة فانزع الثوب وناولني إيّاه " ، قلتُ :
"لماذا؟ " ، قالت : "لأنّك عازمٌ على العودة إلى جسمك" ، قلتُ
: "إنّ الثوب يسترني فكيف أنزعه وأبقى عرياناً ؟ " ، قالت :
"سيسترك جسمك إنْ عدتَ إليه ، فلم أوافق على انتزاع ثوبي ولكن!ها ألحّت عليّ
وأصرّت على أخذه فنزعته وأعطيتها إيّاه .
ثمّ دخلتُ جسمي من منخر
الأنف ولبسته كما ألبس الثوب، وتمّ ذلك بمجرد إرادتي ، فانتبهتُ من
إغمائي وفتحتُ عينيّ وقد انتهت رحلة الموت هذه وعدتُ إلى الحياة المادّية ثانيةً ،
فرأيتُ رأسي في حجر أمّي وقد عصبوه بعصابة سوداء فحينئذٍ شعرتُ بالألم في رأسي ،
فقصصتُ قصّتي على والدتي وما شاهدنُه في رحلتي القصيرة التي استغرقَتْ ساعة واحدة
من الزمن ، فتشاءمتْ من ذلك وقالت : " أسكتْ ولا تحدّثني بِهذا الحديث ولا
تعُدْ إلى ذلك مرةً أخرى" ، فقلتُ : "ولِمَ يا أمّاه ؟ إنّها رحلة
جميلة" ، فقالت : "إنْ عدتَ إلى مثل هذه الرحلة فإنّك تموت ."
ولَمّا ذكرتُ لَها عن
عمّي علي الذي رأيتُه في سردابنا تعجّبَتْ وقالت بلهفة : "رأيتَ عمّك علي؟
" ، وسمحت لي أن أقصّ عليها ما رأيتُ في عالَم الأرواح ، فقلتُ لَها :
"ومَنْ هو عمّي علي؟ " ، فقالت : "كان لك عمٌّ اسمه علي مات شاباً
لم يتزوّج وكان موته قبل مجيئك إلى الدنيا" . ولَمّا جاء والدي من السوق قصّت
عليه الحادثة فجاء والدي يسألني ويتأكّد من صحّة ذلك ويسألني عن عمّي وأين رأيته
وما هي صفاته فحدّثته بما رأيتُ فصدّقني بما قلتُ لأنّي أعطَيتُ أوصاف عمّي ولم
أكن قد رأيته من قبل ولم أكن أعلم به ولا بموته .
فبقيتُ مريضاً بضعة أيّام
على أثر تلك الحادثة ثمّ شفيت وأحمد الله الذي شافاني وعلى بعض أياته أطلعني
وأراني ، ولكن مع الأسف فقد أنكر هذه الحادثة بعض الناس وصدّق بِها آخرون ،
وسيصدّق من كذّب إذا رأى بنفسه ما رأيت ، وذلك حين موته وانتقاله إلى عالم النفوس
ويندم حيث لا ينفع الندم .
وإليك بعض ما دار بيني
وبين والدتي من استفسار بعد انتباهتي :
قلتُ : "أمّاه رأيتُ
بنت عمّي الكبرى أشعلت النار في صوفة ثمّ أخمدتها ووضعتها على رأس الصبيّ الذي كان
في حجرك ، ثمّ جاءت عمّتي بعُصابة سوداء وشدّت بِها رأسه ، فلماذا فعلتا ذلك ؟
"
قالت : "كان ذلك
لِتضمّد الجرح الذي في رأسِك ، وأنتَ الذي كنتَ في حجري
."
قلتُ : "كلاّ لم
أكنْ أنا في حِجرك بل كان صبيّ لا أعرفه وقد وضَعَت بنت عمّي الصوف على رأسِه
وليس على رأسي إذ أنا سالم لا أشكو وجعاً في رأسي ولا جرحاً أصابني ."
قالت : "إذاً أين
كنتَ حينئذٍ ؟"
قلتُ : "كنتُ واقفاً
قربَكنّ في السرداب أرى ما تضعن وأسمع ما تتكلّمن ." وسكتُّ برهة ثمّ اعتراني
سؤالٌ آخر .
قلتُ : "أمّاه أنا
كنتُ أكلّمكِ فلا تسمعين ، لِماذا ؟ "
قالت : "متى كنتَ
تكلّمني ؟ "
قلتُ : "حين كنتِ
تبكين والصبيّ الميّت في حجرك ."
قالت : "لم أكن أسمع
لكَ صوتاً " . وسكتُّ برهة ثمّ اعتراني سؤالٌ آخر .
قلتُ : "أمّاه
لِماذا لم أتمكّن من فتح باب الدار وقد تقطّعت أصابعي ولم تُفتَح ؟"
قالت : "ها هي
أصابعكَ سالمة لم تتقطّع ."
قلتُ : "لقد أرشدتني
الفتاة التي أعادتها فوضعتُها في أماكنِها فالتَصَقت بكفّي وعادت كما كانت ."
قالت : "لعلّها رؤيا
رأيتَها ."
قلتُ : "كلاّ لم تكن
رؤيا ولكن حادثة واقعيّة ."
قالت : "لا يهمّك!
أصابعك سالمة الآن ."
وسكتُّ برهة ثمّ اعتراني سؤالٌ آخر . قلتُ : "أمّاه أنا
يمكنني أن أطير ، لماذا ؟ "
قالت : "كيف تطير
ومتى كان ذلك ؟ "
قلتُ : "لقد طرت
ورحتُ إلى صحن العبّاس وشاهدتُ أشياء كثيرة ."
قالت : "كنتَ روحاً
ولذلك أمكنك أن تطير ."
قلتُ : "حقاً أمّاه
لقد قال لي ذلك الرجل الذي أسعفني أنتَ روح ، فما معنى روح ؟ "
قالت : "لم تفهم
اليوم معنى الروح ولكن لَمّا تكبر تفهم ذلك ."
قلتُ : "أمّاه
لِماذا لم أتمكّن من أن أقبض على الطير وأسيطر عليه بل كان يخرج من بين أصابعي
ويقطّعها بقوّته ؟ "
قالت : "لأنّك كنتَ
روحاً ولذلك لم تتمكّن من إخضاعه ."
قلتُ : "أمّاه لقد
رأيتُ رجلاً عرياناً لم يلبس شيئاً من الثياب على جسمه ، لِماذا ؟ "
قالت : "لعلّه مجنون
."
قلتُ : "كلاّ لم بكن
مجنوناً لأنّه أرشدني وأسعفني ."
قالت : "لعلّه فقير
لا يملك ثوباً ."
قلتُ : "لقد رأيتُ
كثيراً من الفقراء وهم يرتدون بعض الملابس ولو كانت ممزّقة أو مرقّعة ، ولم أرَ
فقيراً عرياناً مثل هذا ."
ثمّ قلتُ : "لقد
رأيتُ رجلاً واقفاً في السرداب فقالت الفتاة التي أعطتني ثوباً :هذا عمّك علي تعال
سلِّم عليه ، فمن هو عمّي ؟ "
قالت : "كان لكَ
عمٌّ اسمه علي مات شاباً لم يتزوّج وكان موته قبل مجيئك إلى الدنيا ، فما هي
أوصافه ؟ " ولَمّا أعطيتها أوصافه صدّقَتني .
وهكذا جرت بيننا محاورات فكانت
تفهم بعض ما أقول وتجيبني عليه ، وبعضها لا تتصوّرها فتظنّها رؤيا فتسكت عنها أو
تجيب بجواب غير مقنع .
سؤال 3: كيف لا يموت الإنسان إذا خرجت النفس من جسمه
؟
جواب : قلنا فيما سبق أنّ
الجسم فيه مادّة حيّة تقوم بحياته وتعمل على الحركات المستمرّة في جسمه وذلك
كالجهاز التنفّسي والدورة الدمويّة والجهاز الهضمي وغير ذلك مِمّا هو واجب الجسم ،
ولا يموت الإنسان بخروج النفس من الجسم فقط بل يموت بتأكسد السائل الحيوي أوّلاً
ثمّ بخروج النفس .
إنّ الإغماء كالنوم
الإنفصالي ولا فرق بينهما لأنّ النفس تنفصل من الجسم عند الإغماء أيضاً ، ويكون
سبب الإغماء أنّ الإنسان يُضرَب ضربة قوية أو يقع من محل مرتفع أو يصيبه حرٌّ شديد
أو غير ذلك مِمّا تتألم منه النفس تألّماً مؤثّراً فحينئذٍ تخرج من الجسم وتذهب إلى
حيث شاءت ، ثمّ إذا زال الخوف عنها وسكنتْ روعتها رجعت إلى الجسم فينتبه الإنسان
حينئذٍ من إغمائه .
حدّثني عبد المجيد رشيد إمام وخطيب جامع عثمان
أفندي الواقع قرب سوق السراي ببغداد ، قال : عدتُ مريضاً يوماً من الأيام في المستشفى
الجمهوري ببغداد [بنيت بمكانه مستشفى مدينة الطب حالياً] ، وكان المريض قد دهسته سيارة
فأصابت رأسه فانفطرت جمجمة رأسه ، فبقي نائماً في المستشفى أكثر من شهر : فكان يغمى
عليه تارةً ويصحو تارةً أخرى ، وقد استيأس الأطباء من شفائه .
ولما جلست عنده كان مغمى عليه وكان أبوه جالساً
عنده ، وعندما أفاق المريض من إغمائه سألته عن أحواله فأجابني ، وصدفةً دخل صالة المرضى
بائع الصحف والمجلاّت فقال له أبوه : "هل أشتري لك مجلة تطالع فيها وتلهو عن المرض
؟" قال المريض : " لقد طالعت هذه المجلات كلّها قبل ثلاثة أيام أنا وفلان
وفلان (وعدّد أسماء بعض أقاربه الأموات) وكنا نذهب كلّ يوم إلى بائعي الصحف ونطالع
ما فيها من أخبار وحوادث ، وسأنبئك بما في هذه المجلاّت من حوادث وأخبار ، ففي هذه
المجلة في الصحيفة الخامسة كذا وكذا من أخبار ، وفي الصحيفة السابعة القصّة الفلانية
، وفي الصحيفة التاسعة الحادثة كذا"
.
وهكذا أخذ المريض يسرد علينا ما في تلك المجلاّت
من حوادث وأخبار ، فاشترى أبوه إحدى تلك المجلاّت ليرى كلام ابنه المريض هل هو صحيح
كما أخبر عنها أم هو مجرّد هذيان ولغو ، فلما فتح تلك الصفحات التي أنبأ عنها المريض
فإذا هي كما أخبر عنها المريض ، فتعجّبنا من ذلك . وبعد أيام مات المريض وانتقل إلى
عالم الأرواح ليلتقي بأهله وأقاربه كما التقى بهم من قبل .
وهذه
القصة إن دلّت على شيء فإنّما تؤكّد أنّ الموت هو انتقال من دار إلى دار ، وأنّ الإنسان
لا يعدم من الوجود بل هو حيّ إلى الأبد .
إنّ الرؤيا التي يراها
الإنسان في منامه تكون على قسمين :
الأولى – هي الرؤيا الفكرية وتسمّى (أضغاث) وهي ناتجة من الأفكار والأماني والخوف وغير ذلك ، فكلّ شيء
يراه الإنسان في اليقظة ويبقى يفكّر به يراه ليلاً في المنام ،
وأمّا الثانية – فتسمّى (الرؤيا الروحانية) وهي ناتجة عن المخلوقات الروحانية
، فإنّ الروحانيين يأتون للإنسان وهو نائم فيرونه ما أرادوا ، لأنّ أسهل طريقة
للاتصال بين المخلوقات الروحانية وبين الإنسان هي الرؤيا ، وذلك لأنّ الإنسان إذا
نام وكان نومه اتصالياً فيكون قريباً من الروحانيين ، وإذا كان نومه انفصالياً
فيكون روحانياً مثلهم ، فحينئذٍ يمكنه أن يرى المخلوقات الروحانية ويكلّمها ويسمع
منها الجواب .
والمخلوقات الروحانية
يمكنها أن تتصرّف في الرؤيا بالنفوس فتريها أشياء لا يمكنها أن تعملها في اليقظة
وعادات لم تتعوّد عليها في الانتباه ، مثلاً أنّ رجلاً جباناً في اليقظة فيرى في
نومه بيده سيفاً وهو يحارب ويقاتل بين الأعداء ولا يرهب أحداً ، أو يكون في اليقظة
شجاعاً فيرى في نومه أنه جبان قد أخذوه أسيراً ولا يمكنه أن يتخلّص من أعدائه ، أو
يرى في المنام أنه صار فقيراً وهو يسأل من الناس ولا أحد يعطيه شيئاً ولكنه في
اليقظة أبيّ النفس غنيّ حتّى أنه لا يقبل هدية من أحد ، أو يرى في منامه أنه يشرب
الخمر ويزني ويسرق ولكنه في اليقظة رجل صالح لا يجترئ على المحرّمات ، وما هذه
الرؤيا التي هي بعكس ما تعوّد عليه الإنسان في اليقظة إلاّ من الروحانيين وتسلّطهم
على نفس الإنسان بالرؤيا .
والرؤيا الروحانية تنقسم
إلى قسمين :
الأولى : هي الرؤيا الكاذبة وهي ما كانت من النفوس الشرّيرة
والجن والشياطين .
أمّا الثانية وهي الرؤيا
الصادقة فهي ما كانت من النفوس الصالحة والملائكة .
وكثير من الناس يرى أحد أقربائه الأموات فيخبره
بأشياء لا يعلمها فتكون كما أخبره بِها ، وإليك نادرة نذكرها بمقام شاهد نقلاً عن
كتاب الأرواح للشيخ طنطاوي قال:
"نشرت
إحدى المجلاّت العلمية : "ومن ذلك ما رواه الدكتور (دي سرمين) أنه
رأى ذات ليلة أنّ ولده الذي كان يحبّه وقع في نار ملتهبة واحترق ، وكانت الرؤيا
واضحة جداً حتّى انزعج الدكتور فنهض من نومه مذعوراً وذهب إلى حيث كان ولده
مستغرقاً في سباتٍ هنيء ، وفي اليوم التالي بقي تأثير الرؤيا عالقاً به حتّى أنه
أخذ يراقب ولده كمن يحاول أن يردّ عنه الشرّ ثمّ يفحص جسمه بكلّ دقة فوجده صحيح البنية
لا يشكو علّة ، ولكنّ الولد أصيب في اليوم الذي بعده بالتهاب الرئة الحاد وتوفّي
بعد بضعة أيام .
ومن هذا القبيل ما وقع لامرأة عجوز من أهالي
مدينة فيلادلفيا بأمريكا منذ سبع سنوات فإنّها رأت إنّ ابنها سقط بين
عجلات الترامواي وقُتِل ، فنهضت المرأة من نومها مذعورة ولَمّا علمتْ أنّ ما رأته
لم يكن حقيقياً بل هي رؤيا ، عادت فنامت ثانية ولكنّها رأت مرةً أخرى بأنّ
الترامواي قد قتل ابنها وكانت الرؤيا جلية جداً ولَمّا صار الصباح ركبت في القطار
وذهبت إلى نيويورك حيث كان ابنها يسكن ، وما كادت تخرج من محطة نيويورك وتجتاز أحد
الشوارع حتّى أبصرت جمهوراً من الناس مجتمعين حول رجلٍ ميّت قد دهسه الترامواي
وكان ذلك الرجل ابنها وهو المستر وليم كوبر من كبار أغنياء الأمريكيّين وقد شهد
الكثيرون بصحة ما روَته أمه إذ أطلَعت الكثيرين على رؤياها قبل أن تسافر من
فيلادلفيا إلى نيويورك ، ومن جملة الذين شهدوا بذلك العلاّمة "كاميل
فلامريون" .
ويروى عن أدوين ريد العالم
الطبيعي الشهير أنه رأى ذات ليلة في منامه أنه كان سائراً في أحد الشوارع فأبصر
صليباً من الصلبان التي يضعها المسيحيّون على قبورهم وينقشون عليها تاريخ أمواتِهم
ورأى على ذلك الصليب إسمه منقوشاً كما يلي : "إدوين ريد توفّي
في 7 نوفمبر سنة 1910" ، وقد قصّ هذا العالم رؤياه على جمهور
من أصدقائه وهو يضحك ، وفي 7 نوفمبر سنة 1910 توفّي .
ومن هذا القبيل أنّ
ضابطاً أمريكياً يدعى الكابتن "مكجون" قد عزم ذات يومأن يذهب هو وولداه
إلى مسرح "بركلين" بنيويورك فطلب من إدارة المسرح أن تحجز له ثلاثة
كراسي ، وفي الليلة السابقة لذهابه إلى المسرح رأى في المنام أنّ ناراً عظيمة قد
شبّت والتهَمَت المسرح فهلك فيها ثلاثمائة نفس ، وكانت الرؤيا جليّة جداً حتّى أنّ
الرجل هبّ من نومه مذعوراً وفرائصه ترتعد ، وفي صباح اليوم التالي أخبر إدارة
المسرح بأنه قد عدل عن الذهاب هو وولداه ، وفي تلك الليلة عينها شبّت نار هائلة
التهمَت المسرح كله وهلك بالنار ثلاثمائة نفس بين رجال ونساء . هذا ما جاء في
المجلّة ."
وأمّا الذي شاهدته أنا بعيني وسمعته بأذني :
أنّ امرأةً في
كربلاء لَها طفل رضيع عمره سنة واحدة فرأت في المنام أنّ ابنها سقط من
سطح الدار إلى أسفلِها ومات ،فانتبهَت مرعوبة ولَمّا أصبح الصباح وارتفع النهار
نسِيَتْ ما رأته في المنام وأخذَت ولدها وصعدت به إلى السطح لتستدفئبحرارة الشمس
لأنّ الوقت كان شتاءً ولم يكن للسطح حاجز (دايِر) ، فأخذ الطفل يلعب ويزحف حتّى
صار على حافّة السطح فلَمّا التفتَت إليه أمّه وإذا هو في محلّ خطِر فقالت في
نفسِها إنْ ركضتُ خلفه فرّ منّي وهوى إلى أسفل الدار ،فصارت تدعوه إليها ولكنّ
الطفل لم يكترث بدعائها بل أخذ يلعب ويضحك ويزحف إلى الأمام حتّى سقط إلى أسفل
الدار ومات من ساعته .
والحادث الثاني :
في سنة 1939 أنشئ جسر في الحلّة وكان من جملة العمّال الذين يشتغلون في
تشييد ذلك الجسر رجل يسمّى (جواد الحمد) فأصبح ذات يوم مهموماً ولم يشتغل مع
رفقائه فسألوه عن سبب تأخره عن العمل فقال : "إنّ رؤيا رأيتها أمس أزعجتني
وأنا خائف من الاشتغال في هذا اليوم" ، فقالوا له : "وما الذي
رأيت؟" ، قال : "رأيتُ كلباً التَقَم يدي اليمنى وكلّما حاولت أن أخلّص
يدي من فمه لم أتمكّن حتّى قطعها فانتبَهتُ مرعوباً وإنّي خائف من هذه
الرؤيا" . فقالوا له :"هذه أضغاث أحلام فلا تهتمّ لذلك واشتغل
معنا" ، ولم يزالوا يلحّون عليه حتّى اشتغل معهم . وكانت هناك مطرقة كهربائية
تضرب على العمد لتنزلها في الأرض ، فبينما كانت المطرقة مرتفعة وضع (جواد الحمد)
يده على العمود الذي تحت المطرقة سهواً منه فنزلت المطرقة على يده فطحنت عظامها وخرّ
مغشياً عليه فحملوه إلى المستشفى فأمر الطبيب بقطع يده فقطعوها .
وكثيراً ما رأينا مثل هذا وسمعنا ولكن نكتفي بما
ذكرناه .
ليس الموت الذي نعرفه هو زوال الإنسان من الوجود ، ولكنّ الموت هو
انفصال النفس عن الجسم أي انفصال الهيكل الأثيري عن الهيكل المادي . وبعبارة أخرى
أقول إنّ الموت ولادة ثانية للإنسان أي هو ولادة النفس من الجسم ، فالنفس مولود
والجسم والد ، فإذا ولدت النفس من الجسم فالجسم يفنى بعد ذلك وبكون تراباً ، أمّا
النفس فهي باقية لا تفنى ولا تزول وهي الإنسان الحقيقي ، وقد جاء في الحديث عن
النبي (ع) أنه قال : "ليس للإنسان زوال ، بل نقلٌ وانتقال من دارٍ
إلى دار ." ، فالإنسان إذاً لا يموت وإنما الموت للأجسام المادّية فقط ، وقد
قال أبو العلاء المعرّي في ذلك :
خُلِـقَ الـنَّـاسُ للبَقَـاءِ
فضَلّـتْ أُمّــةٌ
يَحْسَبُـونَهُـمْ للنّفــادِ
إنّمـا يُنْقَلُـونَ مِـنْ دَارِ
أعْمَـالٍ إلَـى دارِ
شِـقْـوَةٍ أو رَشَــادِ
وقال الله تعالى في سورة البقرة { وَلاَ
تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن
لاَّ تَشْعُرُونَ } ، وقال عزّ من قائل في سورة آل عمران { وَلاَ
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء
عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } فالإنسان إذاً لا يموت وإنّما الموت
للأجسام فقط . وجاء في إنجيل متى في الإصحاح العاشر قال المسيح لتلاميذه : "ولا
تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكنّ النفس لا يقدرون أن يقتلوها ."
سؤال 4: قال الله تعالى في سورة الملك { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ
وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْغَفُورُ }
، فما معنى قوله تعالى { خَلَقَ الْمَوْتَ } ، فهل الموت شيء مادّي
فخلقه الله تعالى أم هو عارض ؟
جواب : الموت
هنا يريد به الجماد ، كقوله تعالى في سورة ي س { وَآيَةٌ لَّهُمُ
الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ
يَأْكُلُونَ }
فقوله تعالى{ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ
}
بعني خلق الجماد والحياة ، ولذلك قدّم كلمة "موت" على
"الحياة" لأنّه تعالى خلق الجماد قبل الحياة . أمّا خلقة الحياة فهو
مفهوم لأنّ منشأ الحياة من حجيرات حية نامية وإنّ الله تعالى خلق تلك الحجيرات
وخلق كلّ شيء .
يكون
سبب موت الإنسان على قسمين :
أوّلاً : عوارض
الطبيعة ، وذلك كالغرق والحرق والقتل وسقوط جدار على الإنسان وغير ذلك ، فيموت
الإنسان حينئذٍ أي تنفصل النفس عن الجسم فيصبح الجسم عاجزاً عن حفظ النفس وذلك
لِما أصابه من خلل ، وفي هذه العوارض لا يحضر ملَك الموت لقبض النفوس ، بل الله
تعالى يتوفّاها ، قال تعالى في سورةالزمر { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا
وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا }
أمّا القسم الثاني وهم الذين يمرضون ثمّ يموتون أو
يموتون بلا مرض ، فهؤلاء يحضر عندهم ملَك الموت فيخرج نفوسهم من أجسامهم ، فمثل
ملَك الموت كمثل القابلة التي تخرج الطفل من بطن أمه كذلك ملَك الموت يخرج النفوس
من الأجسام ،فإذا جاء ملَك الموت إلى المستحضر أخذ يؤكسد السائل الحيوي الذي في
جسم الإنسان فتنفصل النفس حينئذٍ عن الجسد ولا يبقى لَها اتصال ، وذلك لأنّ السائل
الحيوي هو السبب في اتصال النفوس بالأجسام .
قال الله تعالى في سورة الأنعام { وَلَوْ
تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ
أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا
كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ
تَسْتَكْبِرُونَ } ، فقوله تعالى{ وَلَوْ تَرَى }
معناه : ولو ترى يا محمّد حال الظالمين حين ينزل بِهم الموت وهناك الملائكة باسطو
أيديهم إلى المستحضرين يؤكسدون السائل الحيوي الذي في أجسامهم يقولون لَهم :أخرجوا
أنفسكم من أجسامكم { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ...الخ
} ،
وقال تعالى في سورة السجدة { قُلْ
يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ
تُرْجَعُونَ
} ، وقال تعالى في سورة الأنعام{ حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } أي لا يقصّرون في حقّه
فإن كان محسناً عاملوه بالإحسان وإن كان مسيئاً عاملوه بالترك والنسيان ، فإذا
تركوه وانصرفوا عنه حينئذٍ تأتي إليه الشياطين والجنّ والنفوس الشرّيرة فيؤذونه
ويسجنونه ويسخرون منه فيريد أن يتخلّص منهم فلا يتمكّن ، فقوله تعالى { وَهُمْ
لاَ يُفَرِّطُونَ } يعني : لا يقصّرون في حقّه ، كقوله تعالى
في سورة يوسف { وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ ...الخ
} والمعنى : ما قصّرتم في حقّ يوسف .
وقال تعالى في سورة الواقعة { فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ . وَأَنتُمْ
حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ . وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا
تُبْصِرُونَ . فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ . تَرْجِعُونَهَا إِن
كُنتُمْ صَادِقِينَ} فقوله تعالى { إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ }
يعني : إذا بلغت النفس إلى الحنجرة { وَأَنتُمْ } أيها الحاضرون { حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ }
إلى المستحضر كيف يعالج سكرات الموت { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } يعني : رسلنا أقرب إليه
منكم وهم الملائكة الذين يقبضون نفسه { وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ } لكونِهم أثيريين وأنتم مادّيون ،
وقال تعالى في سورة القيامة { كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ
التَّرَاقِيَ . وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ . وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ . وَالْتَفَّتِ
السَّاقُ بِالسَّاقِ . إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ } ، فقوله
تعالى { إِذَا بَلَغَتْ
التَّرَاقِيَ } يعني : إذا بلغت النفس إلى الترقوة ، وهي عظام الرقبة { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } يعني : حينئذٍ يقال هل
من طبيبٍ راقٍ يداويه ويشافيه ؟
إنّ ملائكة الموت هما إثنان لكلّ إنسان حضرته الوفاة ، فهما اللذان
يكتبان حسنات الإنسان ويحصيان عليه سيئاته ؛ قال الله تعالى في سورة الأنعام { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ
عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } ، فقوله تعالى { تَوَفَّتْهُ
رُسُلُنَا }
يعني الحفظة تتوفّاه وهم الذين أرسلهم من قوله { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم
حَفَظَةً }
، وأمّا قوله { لاَ يُفَرِّطُونَ }يعني لا يقصّرون في حقه
إن كان محسناً عاملوه بالإحسان وإن كان مسيئاً عاملوه بالترك والنسيان . وقال
تعالى في سورة الأعراف {
حَتَّى
إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ
تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا ...الخ
} ، فقوله تعالى { جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا }
يعني الذين أرسلهم للإنسان يحفظون عليه سيئاته ويكتبون حسناته وهم رقيبٌ وعتيد .
وقال تعالى في سورة السجدة { قُلْ يَتَوَفَّاكُم
مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ }،
فقوله تعالى { وُكِّلَ
بِكُمْ }
يعني وكيل عليكم يكتب أعمالكم ويحفظ عليكم سيئاتكم . وقال تعالى في سورة الأنبياء
{ لَا
يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا
يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } ، فالملائكة التي تتلقّاهم يوم
القيامة هم الحفظة وهماعتيد ورقيب .
وقال تعالى في سورة السجدة {
إِنَّ
الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ
الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ
الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا
تَدَّعُونَ }
، فقوله تعالى { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } يعني الملائكة تقول لهم نحن كنا نتولّى
أموركم في الحياة الدنيا ونراقبكم ، وفي الآخرة أيضاً كنا معكم ، أي في العالم
الأثيري ، فكنا نتولّى أموركم ونرشدكم إلى ما فيه صلاحكم ونحرسكم من الجن
والشياطين ، واليوم أتينا نتلقّاكم "وهو يوم القيامة" ونبشّركم بدخول
الجنة ونأخذكم إليها .
فعتيد ورقيب هما مع
الإنسان في دار الدنيا يكتبان أعماله ، وهما اللذان يقبضان نفسه عند الموت ، وهما
اللذان يؤنسانه بعد الموت ويتولّيان أموره "إن كان الشخص من الصالحين"
وهما اللذان يتلقّيانه يوم القيامة ويبشّرانه بدخول الجنة ثمّ يأخذانه إليها إن
كان من الصالحين . قال الله تعالى في سورة ق {
وَجَاءتْ
كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } ، "فالسائق"
هو الذي يسوقها إلى الجنة أو إلى النار ، و"الشهيد" هو الذي يشهد عليها
بما عملت في دار الدنيا من خير أو شرّ ، فالسائق والشهيد هما عتيد ورقيب . وقال
تعالى أيضاً
في نفس السورة { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ
عَنِيدٍ }،
فالخطاب في قوله { أَلْقِيَا } يعود إلى عتيد ورقيب.
إذا دنت للإنسان ساعة
وفاته حضر عنده أقاربه الأموات أي النفوس الأثيرية ، وجلسوا عنده يتحدّثون معه وهو
يراهم ويكلّمهم ويكلّمونه ، فإذا مات وانفصلت نفسه عن جسمه جاؤوا معه مشيّعيين
نعشه حتّى ينزلوه في قبره ، وهناك يتزاورون ويتحدّثون داخلين خارجين قائمين قاعدين
حتّى يوم الدين . وإليك نادرة نذكرها بمقام شاهد فنقول :
مرضت امرأة في الحلّة
وزاد بِها المرض يوماً بعد يوم حتّى دنت ساعة وفاتِها ، وكانت حماتها معها في
الدار فسمعت المستحضرة تتكلّم وكأنّها تسلّم على شخص وتحترمه فسألَتها حماتها
قائلةً : "مع من تتكلّمين ؟" فأجابَتها المستحضرة : "إنّ أبي وأمّي
جاءا إليّ وها هما جالسان حولي فاستتري بإزارك لكي لا يراكِ أبي" ، ولكنّ
حماتَها لم تعتنِ بكلامِها ولم تلبسْ إزارها بل قالت في نفسها : "إنّ أباها
وأمّها ميتان فكيف يأتيان إليها ؟" ، وما زالت تلك المستحضرة تتكلّم فكأنّها
تكلّم أمّها وأباها ثمّ تلتفت إلى حماتِها وتقول لَها : "إلبسي إزاركِ فإنّ
أبي جالسٌ إلى جنبي" ، ولكنّ حماتَها لم تعتنِ بكلامِها ، ثمّ قالت لحماتِها
: "إلبسي إزاركِ وافتحي باب الدار فقد جاء أخي حسين" !
ولكنّ حماتَها لم تلتفتْ إلى قولِها بل قالت
في نفسها : "إنّ هذه المريضة تهذي من شدّة المرض" ، ولم يمضِ من الوقت
إلاّ دقيقة وإذا بالباب يُطرَق ، فأقبلت حماتها نحو الباب ونادت : "مَن
بالباب ، حسين ؟" ، أجاب : "نعم إنّي حسين" ، ففتحت له الباب ودخل
، فقال لَها : "مَن أعلمكِ أنّي خلف الباب ؟"فقالت له : "إنّ أختكَ
أعلَمَتني بذلك" ، ولَمّا رأته أخته رحّبت به وقالت له : "إنّ أبي وأمّي
كانا عندي الساعة وهما تحدّثا معي ، ثمّ قال لي أبي : "لقد جاء أخوكِ حسين
وإنّنا ذاهبان" ، ثمّ تكلّمت معه بضع كلماتٍ أخرى وسكتت فحرّكها أخوها فإذا
هي ميّتة .
وكثيرٌ مِمّن حضرتهم
الوفاة نسمعهم يتكلّمون ذاكرين أسماء أقاربهم وأهاليهم الأموات فكأنّهم يتحدّثون
معهم ويخبروننا عنهم قائلين : إنّ هذا زيدٌ وذاك عمرو وهذا أبي وذاك أخي وتلك أمّي
إلى غير ذلك ، ونسمع كثيراً مِمّن حضرتهم الوفاة يتكلّمون بكلامٍ غير مناسب ،
مثلاً أنّهم يردّون الجواب بدون أن يسألَهم أحدٌ منّا ، أو أنهم يذكرون اسم شخصٍ
من الأموات ويكلّمونه فكأنّه حاضرٌ عندهم ، فلمّا نسمع ذلك من أحدهم نقول إنّه يهجر
أو يهذي ، ولكن في الحقيقة أنه لم يهذِ بل يرى بعض نفوس أقاربه الأموات فيتكلّم
معهم ويكلّمونه ، ولَمّا لم نسمع السؤال من النفوس بل نسمع ردّ الجواب من الشخص
المستحضر قلنا أن يهذي .
سؤال 5 : كيف
علمت تلك النفس بأنّ ولده حسيناً قد أقبل يعود أخته المستحضرة ، فهل النفوس تعلم
الغيب ؟"
جواب : قلنا
فيما سبق أنّ النفوس تكون قوية البصر وأنّ بصرها ينفذ في الأجسام المادّية ، وقد
سمعتَ قصة النقاش فيما مضى ، فهذه النفس رأت ولدها من خلف الجدار فأخبرتْ به
ابنتها ، أي أخبرتْ بذلك المرأة المستحضرة لأنّ النفوس لا يحجب بصرها جدار .
سؤال 6 : أنت
تقول أننا لا نرى النفوس إلاّ إذا متنا وأصبحنا نفوساً مثلها ، فكيف
رأت هذه المستحضرة أمّها وأباها ؟
جواب : إنّ
من حضرته الوفاة يرى النفوس ويكلّمها ، لأنّ السائل الحيوي الذي في جسمه أخذ في
التأكسد فالنفس تكون حينذاك على وشك الخروج .
ذكرنا فيما سبق أنّ الموت
هو انفصال النفس عن الجسم ، وهنا نذكر عن مصير كلٍّ منهما بعد الموت ، فنبتدئ
أولاً عن البحث في الأجسام فنقول :
إنّ الجسم عند انفصال
النفس عنه وتأكسد السائل الحيوي كما تقدّم بيانه يبقى مادّة عضوية لا حياة فيها
فيكون حينئذٍ عرضة للتفسّخ والتعفّن والتلف ، فيبقى بلا سمع ولا بصر ولا فؤاد ،فهو
كالخشبة الممدّدة لا يشعر بألم ولا بلذّة ولا يفهم ولا يعي ، فإذا دُفِن في القبر
أخذ يتفسّخ حتّى يكون تراباً بعد مدّة من الزمن ، والجسم لا يكون عليه حساب ولا
عقاب ولا نعيم ، وإنّما الحساب والعقاب والنعيم يكون للنفس خاصةً لأنّ النفس هي
الإنسان الحقيقي ، وما الجسم إلاّ غلاف للنفس ، قال الله تعالى في سورة ق { فَكَشَفْنَا
عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } ، فالغطاء هو الجسم كان
غطاءً للنفس فكشفه عنها بالموت .
وأمّا من قال إنّ النفس ترجع إلى الجسم في
القبر ويُحاسَب الميّت ثمّ تخرج منه النفس ثانيةً ، فهذه أقوال لا صحة لَها ، وقد
قال الله تعالى في سورة الصافّات عن لسان أهل الجنة { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ . إِلَّا مَوْتَتَنَا
الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } ، فأخبر سبحانه بأنّ الموتة واحدة لا موتتان . وقال
تعالى في سورة الدخان {
لَا
يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ
الْجَحِيمِ }.
سؤال7 : إذا
كان كما تقول ، إذاً فما معنى قوله تعالى في سورة المؤمن { قَالُوا
رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا
بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ } ؟
جواب: يكون
هذا القول منهم في عالم البرزخ عالم النفوس وذلك حين دخولهم في النار في البراكين قالوا
{ رَبَّنَا
أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } ، أي مرّتين ، فالموتة
الأولى هي النوم في الدنيا ، والثانية هي الموتة الحقيقية . والدليل على ذلك قوله
تعالى في سورةالزمر { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ
مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى
عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ، وقال تعالى في
سورةالشعراء عن لسان إبراهيم { وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ
يُحْيِينِ } يعني يميتني بالليل وهو
النوم ويحييني بالنهار ، وهو اليقظة من النوم . وقال تعالى في سورةالأنعام { وَهُوَ
الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَاجَرَحْتُم بِالنَّهَارِ
} .
أما قوله تعالى { وَأَحْيَيْتَنَا
اثْنَتَيْنِ }
، فالحياة الأولى عاشها في بطن أمّه خلقه من نطفة فصار حيّاً ، والحياة الثانية
عاشها في الدنيا بعد خروجه من بطن أمّه . والمعنى : رزقتنا ونحن في بطون أمّهاتنا
ورزقتنا في الدنيا بعد خروجنا من بطون أمّهاتنا فلم تنسَنا صغاراً ولا كباراً ونحن
لم نشكر لك على نعمائك بل عبدنا غيرك ، ولكن الآن واجهنا الحقيقة { فَاعْتَرَفْنَا
بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ } ؟ أي فهل لنا من طريقة
من الطرق نخرج بها من النار بقبول توبة أو بشفاعة أحدٍ من الأنبياء أو بواجبات
تفرضها علينا الآن فنؤدّيها ثمّ تخرجنا بعد أدائها ؟ فيقال لهم : لا سبيل إلى ذلك
.
قلنا فيما سبق أنّ الموت كالولادة ،
فكما يخرج الجنين من بطن أمه ويرى أنه انتزع جسماً كان يغلّفه ، كذلك النفس عند
الموت ترى أنّها انتزعت جسماً كان يغلّفها وخرجت منه . ولَمّا كانت النفس تعوّدت
هذا الجسم وكان يقيها من المؤثّرات الخارجية وكان ملجئاً لَها أخذت تتبعه في بادئ
الأمر إلى حيث نقلوه ، ولكنّها في ذلك الوقت تكون متفكّرة متعجّبة إذْ ترى أنّها
صارت في عالمٍ آخر ، فبعد أن كان الإنسان ذا جسمٍ مادي ثقيل ، أصبح أثيرياً خفيفاً
، وكان لا يسمع إلاّ القريب فصار يسمع البعيد والقريب ، وكان لا يرى المخلوقات
الروحانية فصار يرى الروحانية والمادية ، وكان ضعيف النظر فصار قويّ البصر ، وكان
يمشي على الأرض فصار يمكنه أن يطير في الفضاء بلا جناح .
فإذا رأى ذلك من نفسه
أخذته الدهشة ، ثمّ يزيد عجبه إذا رأى أهله وأقاربه يبكون عليه ويقولون مات فلان ،
فيأتي إليهم ويقول لَهم : "إنّي لم أمت فم بالكم تبكون عليّ وتقولون مات فلان
ألا ترونني واقفاً أمامكم ؟" ولكن لا يسمعه أحدٌ منهم ولا يراه أحد لأنه أصبح
مخلوقاً أثيرياً والأثيريات لا تراها الماديات ، ولا يزال يكرّر عليهم الكلام حتّى
يعلم أنّهم لا يرونه ولا يسمعونه فحينئذٍ يتركهم إلى ما شاؤوا أن يفعلوا ولِما
أرادوا أن يتكلّموا ، فحينئذٍ تأتي إليه أقاربه الأموات ويأخذونه معهم إلى أماكنهم
فيتحدّثون ويتزاورون ويأكلون ويشربون ، ويتنزّهون في الحدائق هذا في الليل ،
فإذا أصبح الصباح وطلعت الشمس رجعوا إلى
أماكنهم ولا يخرجون إلاّ وقت غروب الشمس ، وقد يخرج بعضهم في النهار ويتجوّلون في
بعض الأماكن ولكن لا يرتاحون في جولتهم ولا يأنسون بل تؤذيهم الشمس وتخطفهم الطير
وتزعجهم أصوات الناس والضوضاء وتهوي بهم الريح في مكانٍ سحيق فيرجعون إلى أماكنهم .
وإنّما يكون خروجهم بالليل ورجوعهم بالنهار
لأنّ الشمس تؤذيهم فلايستطيعون النظر إليها ولا الجلوس في أشعتها ولا يطيب لهم
العيش إلاّ في الظلام ، وذلك لحدّة بصرهم وقوته ، يكتفون بالضياء القليل كضياء
المصباح أو ضياء القمر أو بلا ضياء ، فهم من هذه الوجهة كالخفّاش يطير بالليل
ويختفي بالنهار ،ولذلك يسكنون السراديب أو المحلاّت المنعزلة عن الناس التي لا
تنزل عليها أشعة الشمس أو الكهوف أو الخرائب أو البيوت المتروكة التي لا تسكنها
الناس . قال الله تعالى في سورة الدهر في وصف أهل الجنة {
مُتَّكِئِينَ
فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا }
، أبعدهم الله تعالى عن الشمس لأنّها تؤذيهم .
واعلم
أنّك حين موتك وانفصالك عن جسمك ترى نفسك عرياناً فتستحي مِمّا أنت فيه فتلتفت
يميناً وشمالاً تبحث عن ثوبٍ تلبسه وتستر به عورتك فلا تجد غير الثياب
المادية التي كنت تلبسها في الدنيا ، فإذا جئت لتأخذها وتلبسها فلا تقدر على حملها
من مكانِها لأنّك أصبحتَ مخلوقاً روحانياً أثيرياً فتتركها وتفتّش عن غيرها حتّى
تيأس مِنها و تبقى عرياناً .
أمّا إذا كنت من الصالحين
ومن الموحّدين فإنّ الملَكين عتيد ورقيباللذَين كانا بصحبتِك في دار الدنيا
يأتيانك بثوب جديد أثيري فتلبسه و تستر به عورتك ، وإلى ذلك أشار الله تعالى في
كتابه المجيد بقوله في سورة الأعراف آية 26
{ يَا
بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا
وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ } .
أو أنّك أعطيت في حياتك
الدنيا رداءً للفقير في سبيل الله ، فإنّ الملائكة تأتيك به فتلبسه وتستر به عورتك
، قال تعالى في سورة آل عمران { لَن
تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن
شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } ، و قال تعالى في سورة الأنفال { وَمَا
تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ
تُظْلَمُونَ }
ثانياً إنّك بعد موتك تشعر بالعطش فتذهب
تفتّش عن الماء لتشرب وتروي عطشك ، فإذا أتيت آنية الماء لتحملها وتشرب فلا تستطيع
حملها لأنّك أصبحت مخلوقاً أثيرياً فتتركها وتذهب تفتّش عن غيرها فتأتي إلى النهر
فتبسط يديك إلى الماء لترفعه وتشرب منه فلا يمكنك فتتركه وتذهب تفتّش عن غيره
لعلّك تجد ماءً تشربه ، وإلى ذلك أشار الله تعالى في كتابه المجيد في سورة الرعد
آية 14 { كَبَاسِطِ
كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ...الخ
} . أمّا إذا كنتَ من الصالحين فإنّ الملكين يأتيانك بكأسٍ من ماء الجنة فتشربه
فترتوي ولا تظمأ بعده أبداً ، وبذلك تعرف نفسك هل أنت من السعداء أم من الأشقياء
ثمّ إنك تشعر بالجوع
فتفتّش عن طعامٍ تأكله فلا تجد فتبقى جائعاً ، فإنْ كنت من الصالحين فإنّ الملَكين
يأتيانك بفواكه أثيرية فتأكل وتشبع .
وإنْ كنت قد أعطيت لرجل
فقير طعاماً : خبزاً أو فاكهةً في سبيل الله ، فإنّ الملَكين يأتيانك
به فتأكل ، قال تعالى في سورة البقرة {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ
تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ، والمعنى إذا أنفقت شيئاً مادياً للفقير في سبيل
الله ، كعنقود عنب مثلاً ، فإنّك تجد نسخته الأثيرية في الآخرة ، لأنّ كلّ شيء
مادي له روح أثيرية ، فتأكله ويعود عنقوداً [على شجرته في الجنة] كما كان .
واعلم أنّ الأرواح معنا في بيوتنا ومحلاّتنا
وسراديبنا ، فهي مزدحمة في كلّ مكان ترى أعمالنا وتسمع أقوالنا ، وقد جاء ذلك على
ألسن الناس أيضاً وحتّى في أغانيهم ، وهو قولهم :
"الأرض كلها ارواح خفّف
مشيتَكْ حتّى على الميتين
عمّت أذيتَكْ "
ولكنّنا لا نراهم ولا نسمع كلامهم وحتّى
أنّنا لا نسمع وقع خطواتهم على الأرض ، قال الله تعالى في سورة مريم {
وَكَمْ
أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ
تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا }.
[تأثير
الرياح والأمطار على الأرواح]
فإذا خرجتَ من مخبئك ليلاً وكانت رياح شديدة
أو أمطار فلا تذهب إلى مكانٍ ما ، بل انتظر في إيوانك حتّى تسكن الرياح والأمطار
لأنّ الريح ترفعك وتلقي بك في مكان سحيق فتتألّم ، أمّا الأمطار فتسقط على رأسك
فتثقب جسمك الأثيري وتنزل إلى الأرض فتعمل بك كما يعمل الرصاص (صچم) في الأحياء .
[الفرار من عالم المادة
إلى جوار ربّك]
والأحسن من هذا وذاك أن
تهرب من الأرض وتصعد إلى السماء وتنجو من المادة وتكون في جوار ربّك ، فقد قال
تعالى في سورة الذاريات { فَفِرُّوا
إِلَى اللَّهِ }
يعني تخلّصوا من المادة بأعمالكم الصالحة وتقواكم وبرّكم وبذلك تكونون في الجنان الأثيرية
عند ربكم ، وقال تعالى في سورة الأعراف في قصة بلعام بن باعور{ وَلَوْ شِئْنَا
لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ }
، والمعنى : لو ترك بلعام المادة والطمع لرفعناه إلى الجنان الأثيرية ولكنه طمع في
المال وأخلد إلى الأرض ، يعني أحبّ الخلود في الأرض دون السماء .
واعلم أنّ الإنسان ضعيف
عاجز تعجزه البقة وتقتله الشرقة ، وكذلك في حياته الأثيرية الشمس تزعجه والطير
تخطفه والرياح تنقله والحشرات تؤذيه والنفوس الشرّيرة تبتليه ؛ فمن أراد الراحة
والسعادة والحياة الأبدية فليترك الدنيا ويعمل للآخرة ويكون من المتقين فإذا مات
أخذته الملائكة إلى الجنان يعني إلى السماوات الأثيرية فهناك الحياة الأبدية وهناك
ظلٌّ ممدود وماءٌ مسكوب وفاكهةٌ كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وفرُشٌ مرفوعة ؛ فلا
شمس هناك تزعجه ولا رياح تنقله ولا حشرات تؤذيه ولا طير مادّي يخطفه ؛ ولا يوصلك
إلى ذلك النعيم إلا عمل البِرّ وترك الطمع والله يحبّ المحسنين .
قال تعالى في سورة الأعلى
{ والآخِرَةُ
خَيْرٌ وأبْقَى
} ، وقال تعالى في سورة البقرة { قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ
اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ فَتَمَنَّوا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صادِقِين
} .
أقول إن الإنسان لا يتمنى إلا ما هو أحسن
مما لديه ، فلو لم تكن الآخرة أحسن من الدنيا ، ولو لم يكن عالم النفوس أحسن من
عالم المادة ، لما قال تعالى { فَتَمَنَّوا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صادِقِين
} .
وقال تعالى في سورة الضحى مخاطباً رسوله
الكريم محمداً { ولَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى
} ، وكذلك قال تعالى في سورة النساء { قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ والآخِرَةُ
خَيْرٌ لِمَن اتَّقَى } ، وقال تعالى في سورة الأعراف { والدّارُ
الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلّذِينَ يَتَّقُونَ ، أفَلا تَعْقِلُون ؟
}
وقال عزّ من قائل في سورة التوبة { أرَضِيتُمْ
بِالحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الآخِرَةِ ، فَما مَتاعُ الحَياةِ الدّنْيا في
الآخِرَةِ إلاّ قَلِيلٌ } ، وكذلك قال سبحانه في سورة الرعد { وفَرِحُوا
بِالحَياةِ الدُّنْيا ، وما الحَياةُ الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلاّ مَتاعٌ
} ، وقال تعالى في سورة النحل { ولَدارُ
الآخِرَةِ خَيْرٌ ولَنِعْمَ دارُ المُتَّقِينَ } ، كما قال سبحانه في
سورة العنكبوت { وإنَّ الدّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوانُ
لَوْ كانُوا يَعْلَمُون } أي لو كانوا يعلمون حقيقة النعيم والراحة
والسرور في الآخرة .
وقال تعالى في سورة الأعلى ( والآخِرَةُ
خَيْرٌ وأبْقَى
) .
إنّ النفس هيكل
أثيري خفيف يمكنها أن تصعد إلى أعلى طبقات الفضاء بلا جناح ، فهي تسبح في الهواء
كما تسبح السمكة في الماء ولكن لا يمكنها مقاومة تيّار الهواء إذ ليس لها أجنحة
ولا زعانف كما للسمكة التي تقاوم بها الماء .
والنفس يمكنها أن تنزل في الأرض وتخرج منها
بلا صعوبة ، ويمكنها أن تدخل الغرفة والباب مغلق لأنّها تستطيع أن تدخل وتخرج من
أصغر ثقب ، والنفس إذا انفصلَتْ من الجسم يكون بصرها أقوى مِمّا كانت عليه وهي
داخل الجسم لأنه كان كغطاءٍ لَها ، فإذا كان الإنسان يرى من مسافة ساعة فإنه إذا
انفصل عن جسمه المادّي يرى من مسافة اثنتي عشرة ساعة لأنّ الغلاف الذي كان على
بصره قد زال . هذا في الظلام أمّا في الضياء فيكون بصره ضعيفاً فلا يرى إلاّ
القريب منه ، وكذلك السمع عندها ، فإنّ النفس يقوى سمعها إذا انفصلت عن الجسم
فتسمع حينئذٍ من مسافة بعيدة ، وهكذا تقوى جميع حواسّ النفس بعد الموت إلاّ حاسّة
النطق فإنّها تكون ضعيفة لأنّ الفم المادّي هو كآلة مكبّرة للصوت عند النفس ، فإذا
انفصلت النفس عن الجسم فحينئذٍ لا يمكنها أن تنطق بصوتٍ يسمعه المادّيون بل يسمع
بعضهم بعضاً ، والنفس لا يبعد عليها طريق ولا مكان فهي تسير بسرعة الهواء ،
والنفوس تجوع وتعطش ولكن لا يكون أكلها وشربها ضرورياً بل إنْ حصلتْ على طعام أكلت
وإنْ لم تجد لا تأكل ، وكذلك إن وجدت ماء شربت وإذا لم تشرب لا تموت ،
والنفوس لا تتنفس ، أي لا تأخذ الأوكسجين من الهواء ولا
تحتاج إليه ، بل تكون رئاتها ساكنة ، ولكن إن استنشقت الهواء صدفةً فإنه يكون
ثقلاً في جوفها ، ولن ترتاح حتى تخرجه
وتلفظه من جوفها .
والنفوس لا تطرف جفونها ، كما كانت في الدنيا ، وبدل ذلك
يكون بصرها شاخصاً إلى الأمام ، ولا تستطيع أن تدير بصرها يميناً وشمالاً ، ولكن
أن أرادت فإنها تستطيع أن تغلق جفونها كما تشاء .
والنفوس إذا انفصلت عن الأجسام بسبب الموت
حينئذٍ ترى الملائكة والجنّ والشياطين لأنّها أصبحت مخلوقات أثيرية مثلها . قال الله
تعالى في سورة الفرقان {
يَوْمَ
يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ
حِجْرًا مَّحْجُورًا }.
والنفوس لا تنام ولكن
تأخذها سِنَة من النوم ، "وهي الحالة التي تعتري الإنسان قبل النوم فيغمض
عينيه وينعس ولكن ليس بنائم ، فإذا تكلّم معه أحد سمع كلامه وفهم مراده ،"
وهذه الحالة التي تكون عند ابتداء النوم تسمّى "سِنَة من النوم" ، وفي
ذلك قال عدي بن الرقّاع :
وَسْنَانُ أَقْصَدَهُ النُّعَاس
فَرَنَّقَتْ فِي عَيْنه
سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ
وقال
الله تعالى في [سورة البقرة] آية الكرسي { اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ }
ومعناه لا تأخذه سِنةٌ كما تأخذ النفوس ولا نومٌ كما تنام الأجسام . وقال تعالى في
سورة النازعات { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ
وَاحِدَةٌ . فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} أي فإذا الناس يموتون من تلك الزجرة وتنتقل نفوسهم إلى عالم يسهرون
فيه ولا ينامون ، فالسهر هو الامتناع عن النوم ، وفي ذلك قالت الخنساء :
فسوفَ أبكيكَ يا ابنَ
الشريدِ وأسهِرُ عيني
معَ الساهِرِينا
وقال
الله تعالى في سورة الأعراف { إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا
وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ...الخ
} فقوله تعالى { لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء }
دليل على أنهم يمكنهم الصعود إلى السماء ولكن لا تفتّح لهم أبوابها ، ولو فتحوا
لهم الأبواب لأمكنهم الصعود إلى الجنة . وقال تعالى في سورة الحجر{
وَلَوْ
فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ }
فهذه الآية أيضاً تدلّ على أنّ الإنسان يمكنه الصعود في السماء وذلك بعد انفصاله
عن الجسم المادّي . وقال تعالى في سورة الأنعام { فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن
تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم
بِآيَةٍ ...الخ
} فهذه الآية تدلّ على أنّ الإنسان أي النفس يمكنها أن تنزل في الأرض ويمكنها
الصعود في السماء .وقال تعالى في سورة ق { لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ
مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ }
، فالغطاء يريد به الجسم المادّي فهو الغطاء للنفس ، والبصر هو عين النفس ،
والحديد معناه حادّ أي قويّ البصر ، وذلك كقوله تعالى في سورة الأحزاب { فَإِذَا
ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } يعني بألسنةٍ حادة ،
وفي ذلك قال زهير بن أبي سلمى :
وَرْدٌ
عُـرَاضُ السَّاعِديـنِ
حَدِيـدُ النَّـابِ
بَيـنَ ضَـرَاغِـمٍ غُثْـرِ
وقالت
الخنساء :
حَديدُ السّنـانِ ذَليـقُ اللّسـان
ِ يُجـازي المَقـارِضَ أمثالَهـا
وقال
عنترة :
وما
زالتْ صوارِمُنا حِداداً تقدُّ بِها
أنامِلُنا الحديدا
وقال الله تعالى في سورة النمل{ وَوَقَعَ
الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ }
أي لا يتكلّمون بكلامٍ له صوت بل يكون كلامهم خفيّاً لا صوت له . وقال أيضاً في
سورة المرسلات{ هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ . وَلَا
يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } ، ومعناه لا يكون لكلامهم صوت لأنهم
أثيريون ولا يؤذن لهم في الكلام فيعتذرون ، فالنطق غير الكلام ، والنطق هو الكلام
الذي يكون له صوت ، وأمّا الذي لا يكون له صوت فلا يسمّى نطق بل يسمّى كلام ،
وأمّا لفظة "كلام" فهي تشمل الإثنين : ما كان له صوت وما لم يكن له صوت
.
وقال تعالى في سورة طه {
وَخَشَعَت
الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا }
، أي لا تسمع لكلامهم صوتاً بل يكون كلامهم بالهمس ، والهمس هو الكلام الخفي الذي
لا يظهر له صوت . وقال تعالى في سورة مريم { وَكَمْ أَهْلَكْنَا
قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ
رِكْزًا }،
فقوله تعالى { هَلْ
تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ } دليل على أنهم موجودون غير معدومين ولكنّ
النبيّ (ع) لا يحسّ بهم لأنهم أثيريون ولا يسمع النبيّ رِكز أقدامهم على الأرض ،
يقال "ركز الرمح في الأرض" أي غرزه في الأرض .
والنفوس
يمكنها أن تكلّمنا وتفهمنا ما أرادت وذلك بالإيحاء ، ولكن على شروط :
أولاً
: أن
يكون ذلك وقتَ الليل أو في محلّ مظلم لأنّ النفوس تنفر من ضياء الشمس ،
ثانياً
: أن يكون المكان خالياً من
الأصوات والضوضاء ليفهم الإنسان كلام النفوس ،
ثالثاً : أن
يكون الهواء ساكناً ليصل كلامهم إلى أذهاننا ، فالوقت المناسب لذلك نصف الليل لأنّ
الناس نيام والأصوات هادئة .
رابعاً : أن
يكون الشخص المخاطَب حاذقاً فطِناً ليفهم كلامهم وإلاّ فلا يفهم .
خامساً : أن
تتكلّم معهم بصوتٍ منخفض ولا تعطس ولا تسعل لأنّ النفوس تزعجها الأصوات العالية ،
ثمّ إن الهواء يأخذ في الحركة والتموّج من أصواتنا فينقطع عنّا كلام النفوس .
وإليك نادرة أذكرها بمقام شاهد فأقول
:
سافرت
من الحلّة إلى الديوانية في بعض الأيام وأقمتُ فيها أربعة أيام أشتغل في مهنة
التصوير، فعزمت في اليوم
الخامس على الرجوع إلى الحلّة ، فلمّا
اضطجعت على الفراش وأردتُ النوم سألتُ الله أن يرسل إليّ أحداً يوقظني من نومي في
الساعة التاسعة والنصف من الليل أي قبل طلوع الفجر بساعتين [هذا حسب التوقيت
العربي القديم الذي كان شائع الاستعمال حينذاك والذي تكون بدايته عند غروب الشمس ]
لكي أذهب إلى محطّة القطار فأركب فيه إلى الحلّة ، وكان القطار يسير من الديوانية
في الساعة العاشرة من الليل ، فيكون الوقت بيني وبين مسير القطار نصف ساعة ،
وأكتفي بهذا الوقت لأنّ محطّة الديوانية قريبة منها ، ثمّ أخذني النعاس فنمتُ وذلك
في الفندق المعروف بِفندق البحراني ، ثمّ انتبهتُ من نومي بعد ساعات ولم يكنْ في
الغرفة أحدٌ غيري .
فقلتُ في نفسي : "لا أعلم كم تكون
الساعة الآن" ، أي لا أعلم هل ذهب الوقت منّي فجاء الصباح أم لم يأتِ الوقت
الذي أريده فأعود إلى نومي . قلتُ هذه الكلمات في نفسي ولكنّ شفتَيّ أخذتا
تتحرّكان قليلاً بحيث لو كان شخصٌ واضعاً أذنه في فمي لم يسمع ذلك منّي . فأوحِيَ
إلى ذهني أنّ الساعة التاسعة والنصف إلاّ خمس دقائق . هذا فكأنّما كان شخصٌ حاضراً
إلى جنبي فأخبرني بالوقت ، وقد رسخت كلماته في ذهني وفهمتها وفهمتُ اتجاه الكلام
أيضاً ، ولا أنسى أنّ الكلامأوحيَ إليّ من الجهة اليمنى أي من جهة فضاء الغرفة لا
من جهة جدارها ، فصرتُ أكرّر تلك الكلمات على لساني قائلاً "بالتسعة ونصف
إلاّ خمس دقائق" إلاّ أنّني لم أسمع لتلك الكلمات صوتاً بل أوحِيَتْ إلى ذهني
وحياً ،
فتعجّبتُ من ذلك وقلتُ في نفسي : "يا ترى
من الذي علم ما نويتُه في نفسي ثمّ أجابني عليه ؟" ففهمتُ من ذلك المتكلّم
بالوحي يقول "أنا أخوك صالح" فزاد تعجّبي من ذلك ورفعتُ رأسي عن الوسادة
وصرت ألتفت يميناً وشمالاً فلم أرَ أحدً في الغرفة غيري ، غير أنّي لم أكترث
بكلامه وقوله "أنا أخوكَ صالح" ، بل قلتُ في نفسي : "إنّ أخي ماتَ
وعمره سبع سنين ودُفِنَ في كربلاء فكيف يكلّمني وهو ميّت وكيف يحضر عندي في
الديوانية وهو مدفون في كربلاء ؟"
ثمّ جلستُ من رقادي
وتناولتُ ساعتي من جيب سترتي وكانت معلّقة على الجدار إلى جنبي فنظرت إليها فإذا
هي بالتاسعة والنصف ينقص منها دقيقتان ، وقد ذهب من الوقت ثلاث دقائق ، أي من وقت
ما أخبرني به أخي إلى وقت رؤيتي للساعة ، فكان الوقت كما أخبرني به لم يزد ولم
ينقص دقيقة واحدة ، فزاد تعجّبي من ذلك .
وقد خطرت ببالي أسئلة
أخرى فوددتُ أن يجيبني عنها ولكن لم أسمع منه جواباً وذلك على ما أعتقد بأنّ
الهواء الذي في الغرفة أخذ يتحرّك ويتموّج بسبب ما بدا منّي من حركة وسعال وغير
ذلك فانقطع عنّي كلامه فلم أعدْ أفهم منه شيئاً لهذا السبب .
أقول فلا شكّ بأنّ الله
تعالى أرسل إليّ نفس أخي لتوقظني من نومي إجابة لسؤالي ، ولَمّا أيقظتني وسمعت
منّي استفهام الوقت أجابتني عليه وأفهمتني بالوقت ، ثمّ سمعت منّي استفهام الشخص
المتكلّم فأخبرتني : "أنا أخوك أخوك صالح" ، ثمّ قمت ولبستُ ملابسي
وذهبت إلى المحطّة فركبت القطار ورجعتُ إلى الحلّة .
أقول إن أخي صالح لم يأتِ من كربلاء
إلى الديوانية في ذلك الوقت ، بل أظن أنه نزل من السماء وأنّ الله تعالى أرسله
ليوقظني كما دعوت منه .
وإنّ أولاد المؤمنين بعد موتهم : تأخذهم
الملائكة إلى الجنة ، ولا يبقون على الأرض إلا الذين تجاوزوا العشر سنوات من العمر
. ويؤيد هذا ما رأيته في عالم النفوس ، عندما سقطت من مكان مرتفع وذلك ما ذكرته في
هذا الكتاب تحت عنوان : موت أم إغماء .
وقد رأيت أختي في بيتنا ، والتي كان عمرها
اثنتي عشرة سنة . وكذلك رأيت عمي علي والذي كان شاباً ، ولكني لم أرَ إخوتي الصغار
في البيت والذين ماتوا قبل ولادتي لأنّ الملائكة أخذتهم إلى الجنة ، وخاصةً أخي
صالح والذي كان عمره سبع سنوات (عندما
مات) ، والذي كان يصلّي أحياناً في الدنيا، ولكن صلاته لم تكن بقراءة سورة الفاتحة ، ولكنه كان يشكو إلى الله ما
يحتاج إليه لأنه كان يتيماً ولم يكن أحد يعطيه ما يحتاج من اللعَب والملابس وغيرها
مما كان يرغب فيه ، فلا شك أنّ الله تعالى قد أعطاه ذلك ولكن في الجنة .
وإليك حادثة أخرى نقلتها عن صالح قاسم
الموصلي قال :
كنت جندياً في بغداد وكان
عليّ [واجب] حراسة فلمّا انتهت حراستي ذهبت إلى القاووش [قاعة المنام] فانطرحت على
فراشي وكان الوقت منتصف الليل ولم يكن في القاووش مصباح فبينما أنا مضطجع وإذا
بشبح دنا منّي فالتفتّ إليه وإذا هي أمّي فانحنتْ عليّ وقالت "هو"
فراعني منظرها في ذلك الظلام فنهضتُ من فراشي فلم أرَ أحداً . فأوقدتُ شمعة كانت
عندي وفتّشتُ في القاووش فلم أرَ أحداً فرجعتُ إلى مضجعي وإذا بأمّي تدنو منّي
وانحنَتْ عليّ ثانيةً وقالت "هو" ، فخفتُ وخرجتُ من القاووش ونمتُ في
مكانٍ آخر . ولَمّا أصبح الصباح جاءتني برقية من الموصل بأنّ والدتك توفّيت أمس ،
فعلمتُ بأنّ الذي جاءني ليلاً هو روحها .
سؤال 8 : هل تأتي النفوس لزيارة
أهلها ؟
جواب : تأتي كلّما اشتاقت
لزيارتهم وتسلّم عليهم وتكلّمهم ولكنّهم لا يرونهاولا يسمعون كلامها ، فإذا يئسَتْ
منهم رجعت إلى محلّها .
سؤال
9 : لماذا
لا تسكن النفوس دورها التي كانت تسكنها في قيد الحياة وتجالس أهلها بل تجالس
النفوس ؟
جواب : إنّ النفوس لا تألف
الأحياء المادية إذْ لا يمكنها مجالستها والتكلّم معها ، ولذلك تألف النفوس التي
هي من جنسهالأنها يمكنها رؤيتها ومجالستها والتكلّم معها كما قيل في المثل
"الجنس إلى الجنس يميل" وقال الآخر "إنّ الطيور علىأشكالِها
تقعُ" ، ثانياً إنّها تتجنّب الضوضاء والأصوات العالية وتتجنّب الصدمات التي
تعترضها كرمية حجر أو صدمة طائر ، كما صدمتني ومزّقت أحشائي ، أو ما شابَهها ولذلك
تحبّ العزلة عن الأحياء المادية .
إنّ المخلوقات الروحانية على أقسام ، منها
الملائكة ومنها الجنّ والشياطين ومها النفوس البشرية وغير ذلك ، وكلّ قسمٍ منها
يسمّى "أمر" . قال الله تعالى في سورة شورى {
وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ
وَلَا الْإِيمَانُ ...الخ } ومعناه : وكذلك أرسلنا إليك
جبريل الذي هو من مخلوقاتنا الروحانية . وقال تعالى في سورة المؤمن {
رَفِيعُ
الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ
عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ } ومعناه : ينزّل جبريل الذي هو منالمخلوقات
الروحانية على من يختارهم من عباده للنبوّة ، لينذر النبيّ الناس يوم التلاق ، وهو
اليوم الذي يتلاقى فيه الأوّلون مع الآخِرين . وقال تعالى في سورة السجدة { يُدَبِّرُ
الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ
كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } ومعناه : ينزّل
المخلوقات الروحانية من السماء إلى الأرض ثمّ تصعد إليه في يومٍ كان مقداره ألف
سنة . وقال تعالى في سورة الرعد { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ
وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ...الخ } ومعناه :
جعل الله للنبيّ معقّبات من بين يديه ومن خلفه "وهم الملائكة" يحفظونه
من المخلوقات الروحانية الشرّيرة . وقال تعالى في سورة القدر{ تَنَزَّلُ
الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ
فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ } يعني من كلّ قسم من
المخلوقات الروحانية التي عندنا في السماء تنزل في ليلة القدر .وقال تعالى في سورة
أسرى
{ وَيَسْأَلُونَكَ
عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ
إِلاَّ قَلِيلاً } ومعناه : ويسألونك يا محمّد عن جبريل قل
هو من مخلوقات ربّي الروحانية . فالمخلوقات الروحانية كلّ قسمٍ منها يسمّى
"أمر" ومجموعها يسمّى"أمور" ؛ قال الله تعالى في سورة آل
عمران { وَلِلّهِ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ}
، وقال أيضاً فينفس السورة { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ
ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } ومعناه : إنّ الصبر والغفران سيرة حسنة
لأنّها من سيرة الملائكة .
إنّ المخلوقات الروحانية
بأجمعها لا تراها البشر ولا غيرهم من الماديين إلاّ إذا هم أرادوا أن يرُونا
أنفسهم فحينئذٍ نراهم .أمّا النفوس فلا نراها ولا يمكنها أن ترينا أنفسها إلاّ في
المنام فقط ، والمخلوقات الروحانية يرى بعضها بعضاً . قال الله تعالى في سورة
التوبة {
ثُمَّ
أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ
جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ...الخ } فالجنود يريد بِها الملائكة .وقال
تعالى في سورة الأحزاب { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا
نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ
رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ...الخ } . وقال الله تعالى في سورة
الأعراف تحذيراً من الشيطان { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ
حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ
لاَ يُؤْمِنُونَ } ومعناه : إنّ الشيطان يراكم هو ومن
شاكَلَه من المخلوقات الروحانية من حيث لا ترَونَهم ، والميم للجمع . وأمّا قوله
تعالى في سورة الفرقان { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى
يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ ...الخ } فهذا يكون في عالم البرزخ
وفي القيامة أي بعد الموت يرى الإنسان الملائكة لأنه أصبح روحانياً مثلهم .
أمّا
كلامهم لنا فهو بالوحي أي يرسل الشخص منهم الكلام إلى ذهن من أراد مخاطبته من
المادّيين يفهمه ،وهذا يسمّى "وحي" . أمّا كلامهم فيما بينهم
فهو كما نتكلّم نحن فيما بيننا ولكن يكون بالهمس أي لا صوت له يسمعه المادّيون ،
ولكنّ الملائكة والجنّ يمكنها أن تتكلّم بكلامٍ له صوت ، أمّا النفوس البشرية فلا
يمكنها ذلك بل يكون كلامهم لنا بالوحي . والوحي هو إرسال الكلام من شخص إلى شخص
آخر يفهمه بلا صوت ، قال الله تعالى في سورة هود {
تِلْكَ
مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ
قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا ...الخ } ، وقال تعالى في سورة الأنعام {
وَإِنَّ
الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ
أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } .
ولنذكر كلاً من المخلوقات
الروحانية على حدة ، والله الموفّق للصواب .
إنّ الملائكة هي مخلوقات
روحانية أثيرية ذات أجسام خفيفة شفّافة ، والملائكة يمكنها أن تصعد إلى السماء بلا
جناح وتنزل إلى الأرض بسرعة ، ويمكنها أن ترينا أنفسها ، ويمكنها أن تتكلّم معنا
فتسمعنا أصواتها ، ود جاء بعض الملائكة إلى بعض الأنبياء فكلّمتهم وأخبرتهم بأشياء
فسمعت الأنبياء كلام الملائكة ورأتها كما في قصة إبراهيم ونوح وداود ومريم بنت عمران
.قال تعالى في سورة الذاريات { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ } وضيف إبراهيم هم ملائكة ظهروا له بصورة
بشر، وكانوا ثلاثة . وقال تعالى في سورة مريم { فَاتَّخَذَتْ مِن
دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا
سَوِيًّا }
، فالذي تمثّل لَها بصورة بشر هو جبريل . وقال تعالى في سورة ص { وَهَلْ
أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } ، فالذين تسوّروا
المحراب كانوا من الملائكة .
وهنا أذكر بعض الحوادث بمناسبة شاهد فأقول
:
تعوّدتُ أن أنتبه كلّ
صباح للصلاة ، فإذا صادف يوم لم أنتبه فيه أيقظتني أمّي إلى الصلاة ، فيتّفق أن
أسافر إلى بعض البلدان وأنام في أحد الفنادق فلمّا يكون وقت صلاة الصبح أسمع أحداً
يوقظني من نومي قائلاً : "محمّد علي أقعد صلّي" ،فأنتبه من نومي فلم أرَ
من أيقظني ، ثمّ إنّ النائمين في الفندق لا يعرفونني ولا يعرفون اسمي فأتعجّب من
ذلك وأقول في نفسي : "لا شكّ أنه ملكٌ من الملائكة جاء ليوقظني إلى الصلاة
فحينئذٍ أقوم وأصلّي .
والملائكة بعضها بلا جناح
، ومنها من له جناحان كالطير ، ومنها من له أربعة أجنحة كالفراشة .
والملائكة كانوا بشراً في مبدأ خلقتها ولما
توفّيت صارت نفوساً ، ثمّ ألبسها الله جلوداً أثيرية فصارت ملائكةً ، لأنّهم كانوا
من الصالحين المتقين في دار الدنيا ، ولمّا انتقلوا إلى عالم الأثير جعلهم الله من
الملائكة وأسكنهم جنّاته ، وكذلك الصالحون والمتقون منّا سوف يجعلهم الله من
الملائكة ويسكنهم جنّاته . قال تعالى في سورة الزخرف { وَلَوْ نَشَاء
لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ }
فالآية تدلّ على أنّ الإنسان يمكن أن يكون من الملائكة .
والملائكة كانت تسكن
السيارات القديمة أي كانت تسكن الأراضي القديمة التي تمزّقت في قديم الزمان وأصبحت
نيازك ،هذا لمّا كانت في دار الدنيا ، أمّا اليوم فهي تسكن السماوات الأثيرية أي
تسكن الجنان .
والملائكة تشبه النفوس في
أكثر صفاتها فكما أنّ النفوس تأكل وتشرب وتجامع ولكن أكلها أثيري ، فكذلك الملائكة
تأكل وتشرب وتجامع أزواجها ولكن كلّ ذلك أثيري ، وكما أن النفوس لا يكون لها أولاد
ونساءها لا تحيض فكذلك الملائكة ،وكما أنّ النفوس لا تنام كذلك الملائكة لا تنام ،
والخلاصة أن الملائكة تشبه النفوس في أكثر صفاتها إلاّ في بعض الصفات فإنها
تخالفها ، مثلاً إنّ الملائكة يمكنها أن تسمعنا أصواتها وترينا أنفسها ويمكنها نقل
الأشياء الخفيفة ولكن النفوس لا يمكنها ذلك لأنّ الملائكة تغلفها جلود أثيرية ولكن
النفوس ليس لها غلاف فلذلك لا يمكنها أن ترينا أنفسها أو تسمعنا أصواتها إلاّ في
المنام ، والنفوس لا يمكنها نقل الماديات ولوكانت ريشة طائر ، فإذا صار يوم
القيامة فإنّ الله تعالى يلبسها جلوداً أثيرية فتكون كالملائكة فحينئذٍ يمكنها أن
ترينا أنفسها أو تسمعنا أصواتها أمّا اليوم فلا .
قال الله تعالى في سورة
الزخرف { وَجَعَلُوا
الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا
خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } فقوله تعالى { هُمْ
عِبَادُ الرَّحْمَنِ } يعني كانوا بشراً مثلهم ثمّ صاروا ملائكة
وذلك لتقواهم وصلاحهم ،كقوله تعالى في سورة ص{ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا
إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ
} .
والملائكة هم جند الله
ورسله يرسلهم لتعليم الناس ولحفظ الأنبياء من شرّ الشياطين ولإحصاء أعمال الناس
وليكونوا شهوداً عليهم يوم القيامة . قال الله تعالى في سورة
فاطر {
الْحَمْدُ
لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي
أَجْنِحَةٍ } كأجنحة
الطير{ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } يعني
يرسلهم إلى الأنبياء إثنين إثنين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة{ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، فقوله تعالى { يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء } يعني يخلق في المستقبل نوعاً آخر من المخلوقات غير الملائكة
والجن والإنس .
فهذه الآية تدلّ على أنّ الملائكة كانوا من
الخلق أي كانوا من المادّيين ثمّ انتقلوا إلى عالم الأثير فأصبحوا أثيريين ، وذلك
لأن الله سبحانه قرنهم بالخلق بقوله تعالى { يَزِيدُ
فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء } .
فالملائكة كانوا بشراً في قديم الزمان وكان
لهم أجنحة وكانوا من الصالحين ولما انفصلت نفوسهم عن الأجسام صاروا ملائكة . وقال
تعالى في سورة الحـج { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ
رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } .
فالإنسان إذا انفصل عن
جسمه المادي عند الموت حينئذٍ يرى الملائكة ويمكنه أن يتكلّم معهم لأنه أصبح
روحانياً مثلهم . قال تعالى في سورة الفرقان {
يَوْمَ
يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ
حِجْرًا مَّحْجُورًا } .
الجنّ من المخلوقات
الروحانية ولكنّها لا تشابه الملائكة في كونِها أثيرية ولا تشابه النفوس في ذلك ،
لأنّ الجنّ خُلِقَت أجسامها من الغازات ونفوسها من الأثير ، فالغازات تعدّ من
المادة ، فالجنّ إذاً هي مخلوقات مادية ولكنّها روحانية لأنه يمكنها أن تختفي عنّا
ويمكنها أن ترينا أجسامها ، ويمكنها أن تمشي على الأرض ويمكنها أن تصعد في السماء
بلا جناح ، وذلك لأنّ أجسامها خفيفة كالهواء ، ويمكنها أن تُسمعنا أصواتها .
والجنّ أطول أعماراً من
البشر فهم يعيشون مئات السنين ، والجنّ تشبه البشر في أكثر صفاتها حيث أنّها تأكل
وتشرب وتجامع أزواجها وتتناسل وتنام وتموت ... إلى غير ذلك من صفات البشر ، بينما
النفوس والملائكة لا تنام ولا تموت ولا تتناسل ، و الجنّ يمكنها نقل الأشياء
المادية بينما النفوس لا يمكنها ذلك ، فالجنّ تخالف النفوس والملائكة من هذه
الوجهةوتخالف البشر من الوجهة الأخرى لأنّ البشر لا يمكنها أن تختفي عن الأنظار
ولا يمكنها أن تصعد في السماء ولا غير ذلك مِمّا اختصّت به الجنّ .
أما صورهم فهم يشبهون الإنسان في صورته
تقريباً إلاّ الأقدام ، فالجنّ ليس لهم أقدام بل لهم حوافر مثل حوافر الخيل .
والجنّ تسكن الطبقات الغازية
كما أنّ الملائكة تسكن الطبقات الأثيرية التي سبق الكلام عنها في كتابنا (الكون
والقرآن)
والدليل على
ذلك قوله تعالى في سورة المؤمنون { ولَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائقَ ، وما كُنّا عَنِ
الخَلْقِ غافِلِينَ } أي سبع طبقات غازية لسكنى الجن : لكل طبقة منها
طريقة أو مذهب يتبعون منهجه . فكلمة (طرائق) جمع ومفردها (طريقة) وهي المعتقد والمذهب
. ويؤيّد هذا قوله تعالى في سورة الجن { وأنّا مِنّا الصّالِحُونَ ومِنّا دُونَ ذلِكَ ، كُنّا طَرائقَ
قِدَداً } أي كنا في الماضي منقسمين ومتفرقين
إلى طوائف مختلفة .
وبعضهم يسكن في الأرض وذلك في الخرائب
والكهوف والمحلاّت التي لم تُسكَن . و الجنّ يكون أكلهم شيئاً غازياً مناسباً لهم
وكذلك لباسهم ومتاعهم وبيوتهم كلّها من الغازات ، كما أنّ بيوت الملائكة من الأثير
، وبيوت البشر من المادّة . قال الله تعالى في سورة الرحمن { خَلَقَ
الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ . وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ
مِّن نَّارٍ } والمعنى
: وخلق الجانّ من غازات خرجت من النار ، يقال "مرج من الطريق" أي خرج
منه ، ويقال «مرج السهم من القوس» أي خرج وذهب ، ولا تزال هذه الكلمة
متداولة عند العرب بالأخص البدو ولكنهم أبدلوا الجيم بالگاف
يقولون «أمرگ" ومعناه إذهب ، فقوله تعالى { مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ
} يعني خلق الجانّ من غازات خرجت من النار . وقال تعالى في سورة الحجر{ وَالْجَآنَّ
خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ } يعني خلقها من سموم
النار ، والسموم يريد بِها الغازات .
فالجنّ وإن كانت مخلوقات
روحانية ولكن يمكنها أن ترينا أنفسَها وتُسمِعنا أصواتَها ، كما أنّ الغازات يمكن
تحويلها من غاز إلى سائل ثمّ إلى جامد يُلمَس باليد ويُرى بالعين ، ثمّ تحويل ذلك
الجامد أو السائل إلى غاز لا يُرى بالعين ولا يُلمَس باليد ، وإليك بعض الأمثلة عن
ذلك :
إنّ غاز ثاني أوكسيد
الكبريت يتحوّل إلى سائل إذا أُمرر في أنبوبة مبرّدة إلى درجة -10م أو باستعمال
ضغط قدره ستة ضغوط جوّية في درجة الحرارة الاعتيادية ، ويتجمّد في درجة -76 م إلى
مادة صلبة بيضاء تشبه الجليد ، فثاني أوكسي الكبريت تارة يكون غازاً وتارةً يكون
سائلاً وأخرى يكون صلباً ، فالسائل منه والغاز يكونان عديمي اللون بينما الصلب منه
يكون أبيض .
وإنّ غاز الأمونيا يتحوّل
إلى سائل عديم اللون باستعمال ضغط قدره [ 5‚8 ضغوط جوية في درجات
الحرارة الاعتيادية] ، ثمّ إذا أغلي السائل عاد غازاً ثانيةً ، ويمكن تحويل الغاز
إلى سائل وإرجاعه إلى غاز مراراً عديدة ومن هذه الخواص يستفاد في صناعة الثلج .
وإنّ اليود بتسخينه
يتحوّل إلى غاز أحمر وردي وعند تبريد الغاز يعود إلى مادة صلبة بنية اللون
، ويمكن تحويلها إلى غاز ثمّ تحويل الغاز إلى صلب وتكرار هذه العملية عدّة مرّات .
وإنّ الزيبق يتحوّل إلى
بخار عديم اللون عند التسخين ، ثمّ يعود كما كان عند التبريد ، ويتجمّد الزيبق
بالبرودة بدرجة [ - 9‚ 38 ، أو بضغطٍ قدره
6 ‚ 7 ضغط جوّي .]
وإنّ الأوكسجين غاز عديم
اللون فإذا ضُغِط في درجة - 119° م تحوّل إلى سائل ذي لون أزرق .
وهكذا تتغيّر الغازات
بالبرودة والحرارة فتارةً تكون سوائل وأخرى تكون صلبة وأخرى تكون غازات لا تُرى
بالعين ولا تُلمَس باليد ، فكذلك الجنّ يمكنها أن تختفي عن أنظارنا ويمكنها أن
تُرينا أجسامها ويمكنها أن ترتفع في السماء ويمكنها أن تنزل في الأرض .
وإليك هذه الحادثة أذكرها كشاهد على وجود الجن عن كتاب (حقائق
أغرب من الخيال ) :
كان نابليون
يتبع في نجاحاته وانتصاراته إرشاد وتوجيه شبح شخص أحمر ، فلمّا تجاهل إرشاداته
وتوجيهاته أخذ في التدهور والانحطاط.
إنّ ظهور
(شبح فرنسا الأحمر) ، والذي كان قد ظهر لأشخاص عديدين غير نابليون ، كان دلالة على
وجود كائنات غير البشر ، والذين ساعدوا فرنسا وامبراطورها .
وإحدى هذه
المرّات كان ظهوره في ليلة 13 أيار (مايس) للملك هنري الرابع ، والذي كان يحكم في
ذلك الوقت . وبسبب صعوبة الظروف في ذلك الوقت فقد أعلن الملك أنه قرر أن يكون
بنفسه قائداً للجيش . ولكن قبل منتصف الليل استيقظ الملك من نومه ليسمع صوتاً
عميقاً وقوياً ينذره ويتوعّده: وكان جسمه يتصبب عرقاً ، والتفت خائفاً ليرى الشبح الأحمر
بنفس الهيئة التي ظهر فيها من قبل لآخرين عديدين . كان شبح رجل طويل جداً له جسم ضخم ظاهر القوة . وكان يرتدي عباءةً
حمراء وله لحية حمراء طويلة .
وبالرغم من
أن الموسم كان أواخر الربيع إلا أنّ الغرفة كانت باردة جداً . وقد تكلّم الشبح
بنفس الصوت الأجش المهيب ، والذي اعتاد أن يتكلم به والذي سمعه هنري قبل استيقاظه
قائلاً له: "سوف تموت غداً ، سيقتلك هؤلاء الذين تعتبرهم أخلص أصدقائك
."
ثمّ مشى
الشبح خلال الحائط واختفى بدون أن ينتظر أي سؤال أو اعتراض .
ولم يمضِ
أكثر من 12 ساعة بعد ذلك ، إلا وقُتِل هنري في صبيحة يوم 14 أيار (مايس) بينما كان
محاطاً بأكثر المقرّبين من مساعديه ، وكانت الطعنة القاتلة من قِبَل أحد أصدقائه
والمدعو (رافيلاك) .
وكان نابليون
على علم بهذه القصة وكان متأثّراً بها . ومن المعروف من مصادر موثوقة أنّ الشبح
الأحمر ظهر بعد ذلك للويس السادس عشر ، وتنبّأ له عن الثورة الفرنسية ، وأنه
سيقتَل مع زوجته في المقصلة ، كما أنّه تنبّأ لنابليون عن هزيمته في أبي قير.
ولهذا فقد كان نابليون يخشى هذا الشبح والذي رآه مرات عديدة فيما بعد .
لقد
حدث هذا في الأول من كانون الثاني سنة 1814 وفي الصباح الباكر ، عندما كان نابليون
قد هُزِم تماماً ، وكان يتوقّع هجوماً من جيوش عسكرية كبيرة .
كان
جالساً على مكتبه في قصر (تويلري) ، ولم يصاحبه أحد غير مستشاره الكونت مول ،
وسكرتيره الخاص (نيوفال) والذي كان يجلس على مكتبه أمام النافذة .
وكان
يبدو على نابليون أنه مشوش البال ، ولم يبالِ حتى إلى ما كان يقوله الكونت مول .
ثمّ وقف وذهب إلى صالته وهو مشغول وغير منتبه . ثم طلب من الكونت مول أن يذهب إلى
الغرفة الأخرى حتى يتمكن من السيطرة على أفكاره .
فلم
يبقَ في الصالة غير الامبراطور وسكرتيره الخاص ، بينما كان الكونت مول وحيداً في
الغرفة الأخرى ، وكان الباب الذي بين الغرفتين والباب الذي يؤدّي من الصالة إلى
الردهة مغلقاً .
وفجأةً
شعر الكونت مول ببرودة غير اعتيادية ملأت الغرفة ، فرفع عينيه عن الكتاب ، وإذا به
ولدهشته الكبيرة يرى رجلاً طويلاً يرتدي عباءةً حمراء وله لحية حمراء .
وكان
البابان لا يزالان موصدين ، وقال الرجل بصوت أجش عميق : "يجب أن أكلّم
الامبراطور على الفور ."
فأجاب الكونت بلطف : " إنّ
الامبراطور لا يريد أن يزعجه أي شخص ، فهو في خلوة وعزلة عن الآخرين ."
ولم يتذكّر الكونت أنّه كان قد رأى
هذا الغريب قبل ذلك اليوم: ذلك الغريب الذي دخل الغرفة مجتازاً الحرس والبابين
المغلقين .
ثمّ تقدّم الغريب ، ونهض الكونت
ليمنعه من الوصول إلى باب مكتب نابليون والدخول إليه ، ولمّا رأى الرجل يمضي في
تقدمه ، فقد مدّ يده ليدفعه بها ، ولكنه أصيب بالذعر عندما أدرك أنّ يده تنغمس في
جسم الرجل ، فكأنّها انغمست في هواء بارد كالثلج [14]
. ولكن الغريب ذا اللحية الحمراء نظر إلى
الكونت نظرةً آمرة وقال له بصوت عميق : "إذهب إلى الإمبراطور وقل له إنّ
الرجل ذا اللحية الحمراء يجب أن يراه على الفور !"
فأطاع الكونت وهو يرتجف ، وما كان من
نابليون إلا أنه على الفور أمره أن يدع الغريب يدخل . فأطاع الكونت وأغلق الباب
وراء الرجل الطويل وبقي في الغرفة الخارجية ، ولكنه لم يتردّد في ذلك الوقت أن
يصغي من خلال فتحة مفتاح الباب ، فسمع الصوت المهيب بوضوح ، واحتفظ في ذاكرته بكل
كلمة قالها الشبح .
قال الصوت محذّراً : "هذه ثالث
مرة أظهر فيها أمامك . في المرة الثانية أعطيتك مهلة أربع سنوات لتحقّق سلاماً
عاماً ، وحذّرتك أنه في حالة لم تطع ذلك بأني سوف أسحب منك حمايتي . ولكنّك لم
تتبع تعليماتي . ولهذا فقد جئت الآن محذّراً إياك بأن أمامك مهلة ثلاثة أشهر لتكمل
تنفيذ مشاريعك ولتمتثل لعروض السلام التي يقدّمها لك الحلفاء ! فإن لم تحقق أحدهما
أو تنجح في الآخر ، فسينتهي أمرك فتذكّر ذلك جيداً."
ثم سمع الكونت صوت نابليون يتضرّع إلى
زائره ويتوسّل إليه أنه لن يتمكّن من أن يقهر الحلفاء أو أن يحقّق سلاماً مشرّفاً
في غضون ثلاثة أشهر . ولكن الصوت الأجش العميق قاطع كلامه قائلاً : "أنا لا
أكترث بالأعذار ، أنا أعطيك مهلة ثلاثة أشهر لا غير ."
ثمّ خيّم الصمت على الصالة ، وبالرغم
من أنّ مول كان منتبهاً وحريصاً على أن يتتبّع أين ذهب الغريب ، ولكنه لم يره
أبداً بعد ذلك ولم يسمعه يغادر صالة نابليون .
وبعد دقائق قليلة فتح السكرتير نيوفال
الباب فأشار إليه نابليون أن يدخل . وبدا نابليون شاحباً ومنهكاً حتّى أنّ
اجتماعهم أُجّل إلى فرصة أخرى .
ويحدّثنا التاريخ ما حدث بعد ذلك :
فإنّ نابليون اختار أن يمضي في القتال ، وكانت الظروف والأحوال ضده وتسبّب ذلك في
فشله وبالضبط بعد ثلاثة أشهر من ظهور الشبح وتحذيره ، فقد تنازل نابليون باسمه وباسم حلفائه عن عرش فرنسا
وإيطاليا في 11 نيسان 1814 .
الشياطين هم فسقة الجن ،ولفظة شيطان معناها ((
مكّار كذّاب حيّال دجّال))
قال الله تعالى في سورة
الأنعام{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا
لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى
بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ
وَمَا يَفْتَرُونَ }
فقوله تعالى{ شَيَاطِينَ الإِنسِ
وَالْجِنِّ } يعني دجّالي الأنس والجن
و محتاليهم
والدليل على ذلك قوله
تعالى{ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى
بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا }
ومعناه يغري بعضهم بعضا
ويحتال بعضهم على بعض بالكذب والدجل .
وقال تعالى في سورة
النساء { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ
وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا } وقال تعالى في سورة البقرة { وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا
خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ
مُسْتَهْزِؤُونَ } فقوله تعالى{ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } يعني الذين يغوونهم ويكذبون عليهم ومن ذلك قول جرير
أيام يدعونني الشيطان من
غزلي
وكن ًيهوينني إذا كنت شيطانا
فالشياطين هم فسقة الجن
قال الله تعالى في سورة الأنعام { وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ
جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ } يعني يقال للشياطين
يومالقيامة :يا معشر الجن قد أغويتم كثيرا من الأنس .
إن إبليس كان اسمه
((عزازيل)) وإنما سمّي إبليس لأنه أبلس من رحمة الله أي أفلس منها وذلك كقول الله تعالى في سورة الروم { وَيَوْمَ
تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ } يعني يفلسون من رحمة الله ويفلسون من أعمالهم فلا
يؤجرون عليها.
وإبليس كان من الجن وهو
أبوهم كما أنّ آدم هو أبونا ولكنّ إبليس مات وانفصلت نفسه عن جسمه
الغازي ثم ألبسه الله تعالى جلدا أثيريا فصار كالملائكة وأدخله الله تعالى الجنان
الأثيرية لأنه كان من الأتقياء فبقي مع الملائكة ، ولما خلق الله آدم أمر
الملائكة أن يسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس أبى واستكبر فأخرجه الله من الجنان الأثيرية
ولعنه .
قال الله تعالى في سورة
الكهف { وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ
فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن
دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا } فقوله تعالى { كَانَ مِنَ الْجِنِّ } يعني قبل موته كان من الجن ولما مات صار
مع الملائكة لانه اصبح مخلوقا أثيرياً ، وقوله تعالى { أَفَتَتَّخِذُونَهُ
وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي } يعني توالونه ولاتوالوني وتوالون ذريته
الجن وتعبدونهم وتتركون عبادتي (كانت قبيلة من العرب تعبد الجن ويقولون ان الجن
بنات الله ) وقوله { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء } دليل على ان الجن
الموجودين اليوم هم ذرية إبليس وأنه أبوهم ،{ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا } أي بئس ما اتخذتموه بدلاً من دوني حيث أبدلتم
المخلوق بالخالق وواليتم المرزوق وتركتم الرازق على أنهم أعداء لكم ومهما استطاعوا
يرموكم في المهالك .
Man after Death An Hour with Ghosts The Universe and the Quran The Conflict between the Torah and the Quran الخلاف بين التوراة و القرآن الكون والقرآن المتشابه من القرآن ساعة قضيتها مع الأرواح
[1] قال النبيّ (ع) :" تحشر الناس يوم القيامة عراةً
حفاةً غُلفاً ." وقال الله تعالى في سورة الكهف { لَّقَدْ
جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } يعني : جئتمونا عُراةً
كما جئتم إلى الدنيا عراة .
[2] ومن هذا يظهر أنّ الأطفال لا
تبقى عراة في عالم الأرواح لأنّ الأطفال لا ذنب لَهم . أمّا الرجال والنساء فيعامَلون
بأعمالِهم فمن كان من الصالحين تعطيه الملائكة ثياباً يستر بِها عوراته .
ولقد رأيت عمّي علي يرتدي ملابس وكذلك الفتاة التي
أعطتني ثوباً ترتدي ملابس هي الأخرى . أمّا الفاسقون فيبقون عراة بين النفوس ، وذلك
عذاب الخزي في عالم الأرواح ؛ قال الله تعالى في سورة فصّلت { لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ
الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ } .
[3] لم يكن اليود أو موادّ التعقيم
الأخرى معروفة عند الناس حينذاك بل كانوا يضعون "عطّابة" على الجرح ، وهي
صوفة يحرقون نصفَها ثمّ يخمدونَها ويضعونَها على الجرح .
[4] قال الله تعالى في سورة القيامة
يصف الأرواح حين خروجِها من الأجسام { وَالْتَفَّتِ السَّاقُ
بِالسَّاقِ . إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ } ، وأمّا سبب هذا الالتفاف
فهو تجاذب يكون بين الساقين فيمنع النفوس من المشي على الأقدام فينطلقون كالطيور .
[5] قال الله تعالى في سورة الحج
في ذمّ المشركين{ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا
خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ
سَحِيقٍ } فالطيور والرياح خطر على الأرواح .
[6] ومن هذا يظهر أنّ جاذبية الأرض ليس لَها تأثير على
الأرواح .
[7] قال الله تعالى في سورة الحج في ذمّ المشركين{ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ
الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } ، فهذا هو خطف
الطير .
[8] قال الله تعالى في سورة الإنسان في وصف الولدان
{ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ
حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا } ، فاللؤلؤ يكون شفّافاً قبل خروجه من الصدَفة
. وقال تعالى في وصف الحور في سورة الصافّات { كَأَنَّهُنَّ
بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } يعني كأنّها زلال البيض في نقاوته وشفّافيّته . وفي سورة
الواقعة وصَفَهنّ باللؤلؤ فقال تعالى { وَحُورٌ عِينٌ . كَأَمْثَالِ
اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ } ، يعني كاللؤلؤ قبل خروجه من الصدَفة .
[9] قال الله تعالى في سورة البقرة { مِّن قَبْلِ
أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ } ، وقال
تعالى في سورة إبراهيم { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ
لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ }
[10] قال الله تعالى في سورة إبراهيم في وصغ
النفوس{ لاَ
يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء }
يعني أفئدتهم فارغة من الدم ورئاتهم فارغة من الهواء ، لأنّهم نفوس أثيرية ،
والشاهد على ذلك قول حسّان :
ألا أبـلغْ أبـا سـفيانَ عنــّــي فـأنتَ مُـجَوّفٌ نخبٌ هـــواءُ
[11] قال الله تعالى في سورة إبراهيم متوعّداً
الكافرين والظالمين { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ
فِيهِ الأَبْصَارُ . مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ
طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء } يعني يؤخّرهم ليوم مماتِهم الذي تشخص فيه
أبصارهم ، أي تثبت .
[12] قال الله تعالى في سورة ق { لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ
فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } ، أي قويّ البصر .
[13] قال الله تعالى في سورة الإنسان في أهل الجنّة {
لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا }
، أبعدهم الله عن الشمس لأنّها ترهق النفوس .
[14] ملاحظة : أقول أن أجسام الجن يمكن أن تكون مخلوقة
من غاز الأمونيا ، المستعمل في التبريد ، ومن غازات أخرى مثل غاز اليود الذي له لون
وردي . قال تعالى في سورة الرحمن : {وخَلَقَ الجانَّ مِنْ
مارِجٍ مِنْ نار}