كتاب الإنسان بعد الموت الصفحة
الرئيسة
تحضير الأرواح
إنّ كثيراً من الناس قاموا بتحضير الأرواح وسألوها عن أمور
مجهولة لديهم فأجابت الأرواح عن أسئلتهم ، ولكن الدين السماوي يحرّم تحضير الأرواح
ويعتبرها أمراً غير مسموح به ، وذلك لأنّ بعض الجن والأرواح الشريرة تتدخّل في تحضيرهم
: وذلك بأن يلعب جني فاسق أو كافر دور الروح المراد تحضيرها. فيجيب هذا الجني عن الأسئلة
ولكنه يخلط مع الأجوبة الصحيحة كلمات باطلة : كلمات كفر وإشراك بالله .
فمثلاً إذا سألوه عن مريض هل يشفى أو يموت ، فيقول لهم الجني
: خذوا المريض إلى ضريح الإمام العباس بن علي ، واربطوه في شباك الضريح وسوف يشفى المريض
. أو يقول لهم : قرّبوا قرباناً بأن تذبحوا نعجة للإمام ويشفى المريض ، أو غير ذلك
من الطلبات التي هي نوع من المعصية والإشراك .
وعلى كل حال ، فإنّ السائل سوف يؤمن بكلمات الجني أو الشيطان
، ويفكر في نفسه أنّ الشخص المستحضَر قد مات وذهبت روحه إلى عالم البرزخ ودار الحق
ومن غير المعقول أن يكذب علينا ، ولكنه لم يدرك أنّ المتكلّم معه هو شيطان أو جني فاسق
وأنه ليس هو الروح المطلوب تحضيرها .
وهنا قصة عن تحضير الأرواح ، كما ذُكِرت في التوراة : سفر
صاموئيل الأول الإصحاح 28:
" 3 وَكَانَ شَاوُلُ قَدْ نَفَى
أَصْحَابَ الْجَانِّ وَالتَّوَابعِ مِنَ الأَرْضِ. 4فَاجْتَمَعَ الْفِلِسْطِينِيُّونَ
وَجَاءُوا وَنَزَلُوا فِي شُونَمَ، وَجَمَعَ شَاوُلُ جَمِيعَ إِسْرَائِيلَ وَنَزَلَ
فِي جِلْبُوعَ. 5وَلَمَّا رَأَى شَاوُلُ جَيْشَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ خَافَ وَاضْطَرَبَ
قَلْبُهُ جِدًّا. 6فَسَأَلَ شَاوُلُ مِنَ الرَّبِّ، فَلَمْ يُجِبْهُ الرَّبُّ لاَ بِالأَحْلاَمِ
وَلاَ بِالأُورِيمِ وَلاَ بِالأَنْبِيَاءِ. 7فَقَالَ شَاوُلُ لِعَبِيدِهِ: «فَتِّشُوا
لِي عَلَى امْرَأَةٍ صَاحِبَةِ جَانٍّ، فَأَذْهَبَ إِلَيْهَا وَأَسْأَلَهَا». فَقَالَ
لَهُ عَبِيدُهُ: «هُوَذَا امْرَأَةٌ صَاحِبَةُ جَانٍّ فِي عَيْنِ دُورٍ». 8فَتَنَكَّرَ
شَاوُلُ وَلَبِسَ ثِيَابًا أُخْرَى، وَذَهَبَ هُوَ وَرَجُلاَنِ مَعَهُ وَجَاءُوا إِلَى
الْمَرْأَةِ لَيْلاً. وَقَالَ: «اعْرِفِي لِي بِالْجَانِّ وَأَصْعِدِي لِي مَنْ أَقُولُ
لَكِ». 9فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «هُوَذَا أَنْتَ تَعْلَمُ مَا فَعَلَ شَاوُلُ،
كَيْفَ قَطَعَ أَصْحَابَ الْجَانِّ وَالتَّوَابعِ مِنَ الأَرْضِ. فَلِمَاذَا تَضَعُ
شَرَكًا لِنَفْسِي لِتُمِيتَهَا؟» 10فَحَلَفَ لَهَا شَاوُلُ بِالرَّبِّ قَائِلاً:
«حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ، إِنَّهُ لاَ يَلْحَقُكِ إِثْمٌ فِي هذَا الأَمْرِ». 11فَقَالَتِ
الْمَرْأَةُ: «مَنْ أُصْعِدُ لَكَ؟» فَقَالَ: «أَصْعِدِي لِي صَمُوئِيلَ». 12فَلَمَّا
رَأَتِ الْمَرْأَةُ صَمُوئِيلَ صَرَخَتْ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَكَلَّمَتِ الْمَرْأةُ
شَاوُلُ قَائِلةً: «لِمَاذَا خَدَعْتَنِي وَأَنْتَ شَاوُلُ؟» 13فَقَالَ لَهَا الْمَلِكُ:
«لاَ تَخَافِي. فَمَاذَا رَأَيْتِ؟» فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ لِشَاوُلَ: «رَأَيْتُ آلِهَةً
يَصْعَدُونَ مِنَ الأَرْضِ». 14فَقَالَ لَهَا: «مَا هِيَ صُورَتُهُ؟» فَقَالَتْ: «رَجُلٌ
شَيْخٌ صَاعِدٌ وَهُوَ مُغَطًّى بِجُبَّةٍ». فَعَلِمَ شَاوُلُ أَنَّهُ صَمُوئِيلُ،
فَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى الأَرْضِ وَسَجَدَ. 15فَقَالَ صَمُوئِيلُ لِشَاوُلَ:
«لِمَاذَا أَقْلَقْتَنِي بِإِصْعَادِكَ إِيَّايَ؟» فَقَالَ شَاوُلُ: «قَدْ ضَاقَ بِي
الأَمْرُ جِدًّا. اَلْفِلِسْطِينِيُّونَ يُحَارِبُونَنِي، وَالرَّبُّ فَارَقَنِي وَلَمْ
يَعُدْ يُجِيبُنِي لاَ بِالأَنْبِيَاءِ وَلاَ بِالأَحْلاَمِ. فَدَعَوْتُكَ لِكَيْ تُعْلِمَنِي
مَاذَا أَصْنَعُ». 16فَقَالَ صَمُوئِيلُ: «وَلِمَاذَا تَسْأَلُنِي وَالرَّبُّ قَدْ
فَارَقَكَ وَصَارَ عَدُوَّكَ؟ 17وَقَدْ فَعَلَ الرَّبُّ لِنَفْسِهِ كَمَا تَكَلَّمَ
عَنْ يَدِي، وَقَدْ شَقَّ الرَّبُّ الْمَمْلَكَةَ مِنْ يَدِكَ وَأَعْطَاهَا لِقَرِيبِكَ
دَاوُدَ. 18لأَنَّكَ لَمْ تَسْمَعْ لِصَوْتِ الرَّبِّ وَلَمْ تَفْعَلْ حُمُوَّ غَضَبِهِ
فِي عَمَالِيقَ، لِذلِكَ قَدْ فَعَلَ الرَّبُّ بِكَ هذَا الأَمْرَ الْيَوْمَ. 19وَيَدْفَعُ
الرَّبُّ إِسْرَائِيلَ أَيْضًا مَعَكَ لِيَدِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ. وَغَدًا أَنْتَ
وَبَنُوكَ تَكُونُونَ مَعِي، وَيَدْفَعُ الرَّبُّ جَيْشَ إِسْرَائِيلَ أَيْضًا لِيَدِ
الْفِلِسْطِينِيِّينَ». 20فَأَسْرَعَ شَاوُلُ وَسَقَطَ عَلَى طُولِهِ إِلَى الأَرْضِ
وَخَافَ جِدًّا مِنْ كَلاَمِ صَمُوئِيلَ، وَأَيْضًا لَمْ تَكُنْ فِيهِ قُوَّةٌ، لأَنَّهُ
لَمْ يَأْكُلْ طَعَامًا النَّهَارَ كُلَّهُ وَاللَّيْلَ... 25ثُمَّ قَدَّمَتْ [الطعام]
أَمَامَ شَاوُلَ وَأَمَامَ عَبْدَيْهِ فَأَكَلُوا. وَقَامُوا وَذَهَبُوا فِي تِلْكَ
اللَّيْلَةِ."
وفي اليوم التالي حدثت معركة بين الفلسطينيين والإسرائيليين
وقتل فيها شاؤول وأبناؤه الثلاثة .
قصة عجيبة
حدثني عقيد في الجيش
العراقي فقال :
"كنت أدرس في إحدى
جامعات لندن ، وكان في لندن بعض من يعمل كوسيط روحي أو هؤلاء الذين يعملون في
تحضير الأرواح ، وكان منهم فتاة جميلة تتكلم العربية جيداً . وكنت أتردّد عليها
وأسأل الروح الساكن عندها عما يجول في ذهني وكان يجيبني إجابات صحيحة . وكان ذلك
الروح هي أحد العرب واسمه زيد .
وكانت العطلة في الجامعة
قريبة ، ولما عدتُ إلى عائلتي في بغداد وانتهت العطلة رجعت إلى لندن لإتمام دراستي
في الجامعة . وكان عندي علبة سكاير مصنوعة من الفضة ، فخطر ببالي أن أهديها لتلك
الفتاة التي كانت تحضّر الروح ، أي تستدعيه وتسأله وهو يجيبها .
ولمّا وصلت إلى لندن ،
ذهبت إلى تلك الفتاة وقدّمت لها تلك العلبة الفضية الثمينة . وتوقّعتُ أن تشكرني
على ذلك وتقول : "شكراً لك على هذه الهدية الثمينة ." ولكنها بدل ذلك
أخذت تشكر زيداً الروح الساكن عندها ، فقالت : "أهلاً وسهلاً زيد ، شكراً زيد
، مرحباً زيد!"
فقلت لها : "إني أنا
الذي أهديتك هذه العلبة الفضية ، ولكنك أخذتِ تشكرين زيد ولا تشكرينني !"
قالت : "إنّ زيد
أوحى إليك أن تهديني هذه العلبة وأثار رغبتك في ذلك ، ولولاه لما أحضرت إليّ هذه العلبة ."
فعجبت من حالها والروح
الساكن معها .
العذاب والنعيم في البرزخ
إعلم أنّ الحياة في عالم البرزخ هي على
أنواع حسب عمل الإنسان ، فمنهم من يعيش حياة سعيدة ، بينما آخرون يعيشون في مذلّة
وشقاء . وهذا ما قدّموه لأنفسهم وجدوه أمامهم بعد الموت . فمن قدّم الخير وجد
الخير ومن قدّم الشر وجد الشر .
قال الله تعالى فس سورة النجم
{ وأنْ
لَيْسَ لِلإنْسانِ إلاّ ما سَعَى } ومعنى ذلك : ليس للإنسان من خير في
الآخرة إلا ما عمله في حياته الدنيا وقدمه لآخرته .
ومما يؤيّد هذا قوله تعالى في سورة البقرة {
وما
تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ
} أي : ما تعطونه للفقراء والمحتاجين في سبيل الله فسوف تجدونه في الآخرة .
وقال
تعالى في سورة آل عمران { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ
خَيْرٍ مُحْضَراً ، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ }
فمن أنفق من ماله على الفقراء
والمحتاجين في سبيل الله من طعام أو ملابس ، فسوف يكون هناك غنياً ويفرح بما قدّم
لنفسه ، ومن بخل على الفقراء والمحتاجين بماله من طعام وملابس وغير ذلك فهناك سوف
يكون فقيراً ذليلاً بين النفوس .
فإن أردت أن تعيش بسعادة في آخرتك ،
فآمِن بالله ورسله واعمل الصالحات واعبد الله وحده ولا تشرك به أحداً من الأنبياء
والمشايخ والأئمة وأنفق ما تتمكن عليه للفقراء والمحتاجين في سبيل الله ، وتجنّب
المحرّمات ، فعند ذلك ستكون سعيداً في الدنيا والآخرة .
قال تعالى في سورة المنافقون { وأنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ
أنْ يَأتِيَ أحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أخَّرْتَنِي إلَى أجَلٍ قَرِيبٍ
فَأصّدّقَ وأكُنْ مِنَ الصّالِحِين }
فانظر عزيزي القارئ كيف أنّ الإنسان
الذي يموت يتمنّى قبل أيّ شيء آخر أن ينفق على الفقراء والمحتاجين في سبيل الله
لكي يجد في عالم النفوس ما أنفقه وليفرح به في الآخرة .
فالرجل الذي لم ينفق أي طعام في هذه
الدنيا سيكون جائعاً بين النفوس في عالم البرزخ ، ومن لم يكسُ عارياً في الحياة الدنيا ولم يهب أي ملابس لأحد
الفقراء ، فسوف يكون عارياً بين النفوس في عالم البرزخ .
ومثل ذلك الرجل الذي لا يعطي للفقير
أثاثاً ، فسوف لن يكون له أثاث في عالم البرزخ .
بينما المؤمنون الموحّدون والصدّيقون
والشهداء والصالحون والأولياء : فتأخذهم الملائكة إلى الجنان في السماوات الأثيرية
ولن يبقى على الأرض غير الأجسام التي سوف تتفسّخ بعد ذلك وتكون تراباً .
قال تعالى في سورة آل عمران { وَلا تَحْسَبَنَّ الّذينَ قُتِلُوا في سَبيلِ
اللهِ أمْواتاً ، بَلْ أحْياءٌ عِندَ ربِّهِم يُرْزَقُون } ، فقوله تعالى {عِندَ ربِّهِم } أي في السماوات الأثيرية تحت العرش ، أي في الجنان ممّا رزقوا من
ثمارها يأكلون ومن أنهارها يشربون.
وأمّا الكافرون والمشركون والمنافقون :
فهؤلاء تتسلّط عليهم الشياطين فيسجنون بعضهم حول البراكين ويعذّبون الآخرين بمختلف
أنواع العذاب ، ويسخّرونهم للخدمة ، ولا يستطيعون الهرب من أيدي الشياطين مهما
حاولوا ذلك .
قال تعالى في سورة الإسراء ، مخاطباً
إبليس :
{ قالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإنّ
جَهَنّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً . واسْتَفْزِزْ مَن اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ
وأجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ ورَجِلِكَ وشارِكْهُمْ في الأمْوالِ والأوْلادِ وعِدْهُمْ
وما يَعِدُهُمُ الشّيْطانُ إلاّ غُرُوراً . }
فإذا صار النهار أخذوه وصعدوا به إلى الفضاء ليسترق السمع فيبقى تحت أشعة الشمس
فيقاسي حرّها ويتألم من أشعتها ،وإذا صار الليل يسجنونه ،
وهكذا يبقى في مشقة وعناء وهمّ وحزن وسخرية إلى يوم القيامة . قال تعالى في سورة الحج { حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ
مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء
فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } فقوله تعالى { وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ
فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء } يعني من يشرك بالله فقد عرَّض نفسه للخطر وألقى بها في الهاوية
وذلك كالأرواح التي تعبث بها الشياطين وتضحك عليها فتصعد بها الى السماء لتسترق السمع
فإذا رأت شهاباً تبعها أو ملكاً طردها خرّت إلى الأرض مسرعة { فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ } يعني إذا صادفها
طير في طريقها خطفها فمزّق أحشاءها لأنه يدخل من
بطنها ويخرج من ظهرها أو عكس ذلك { أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } يعني
تصادفها رياح عاصفة فتحمل تلك الروح الى مسافات بعيدة وتلقي بها في
مكان عميق فتسقط بين الصخور أو في وادٍ من الوديان فتتكسّر وتتألم وذلك لأنها
اتّبعت قول الشيطان ولم تسمع لوصايا الرحمن ،
وأما أن يبقى عرياناً
بين النفوس جائعاً عطشاناً لا يجد طعاماً ليأكل ولا
ماءً ليشرب فيذهب إلى الأنهر فيرى الماء يتلألأ كأنه بطون الحيّات فيبسط
كفّيه إلى الماء ليشرب ويرتوي فلا يمكنه ذلك لأنه أثيري والماء الذي في الأنهر
مادّي فيتحسر ويقوم ويذهب إلى نهر آخر لعلّه يروي ظمأه فلا يكون نصيبه من ذلك إلا
الفشل ، أما الصالحون فالماء الذي يشربون أثيري لا مادي تأتيهم به الملائكة .
وهكذا يبقى هذا الكافر عرياناً بين النفوس جائعاً عطشاناً لا يجتمع بزوجته ولا بأولاده فهو
حقير ذليل الى يوم الدين .
قال الله تعالى في سورة
الرعد{ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ
كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ..إلخ }
ضرب الله مثلا للمشركين الذين
يعبدون الأصنام وغيرها ويسئلون حوائجهم منها فقال{ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ } يعني إنّ الذي يدعو الناس الى عبادة الله
وإلى التوحيد فإنّ دعوته دعوة حق ، وأن سأل حاجته
من الله فإن الله يستجيب له دعوته { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } يعني أما الذين يدعون إلى
عبادة الأوثان ويعبدونها و يسألون حاجتهم منها { لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم
بِشَيْءٍ} يعني الأصنام لا
تقضي حوائجهم ولا تستجيب لهم بشيء لأنها جماد { إِلاَّ } الأماني والآمال ، فهو
يصبّر نفسه ويفرحها ويقول لها إن الأوثان سوف تقضي
حاجتي وأفرح بذلك ، ولكن لا يجد ما أمّله وتمنّاه إلاّ الخسران { كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى
الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } الكاف كاف التشبيه والمعنى : كشخص عطشان وقد أشتد بهِ العطش
فرأى نهر ماء يجري ففرح وقال في نفسه سأذهب الى ذلك النهر وأشرب
وأروي غليلي ، فلما وصل إلى النهر وبسط كفّيه إلى الماء ليرفعه
إلى فمه ويشرب وإذا به لا يتمكن من رفعه ولا من شربه لأنّ الماء مادّي والشخص
العطشان أثيري ( أي نفس أثيرية ) ففشل وخابت آماله ورجع من النهر بعطشه ، كذلك
المشركون لا يصيبهم من عباده الأوثان إلا الندامة والخسران .
وقال تعالى في سورة طه { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن
ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } ومعناه ومن
أعرض عن ذكر الله في الدنيا فأن له في عالم البرزخ معيشة ضنكا ، أي
عيشاً كدراً { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } عن طريق الجنة .
وقال تعالى في سورة الإسراء{
وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ
أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً } ومعناه من كان في الدنيا أعمى عن
طريق الحق فهو في عالم البرزخ أيضاً أعمى عن طريق الحق لأنّ العقائد التي
اكتسبها في الدنيا بقيت معه في الآخرة ، ثم إنّ الشياطين تحيط به وتغويه .
وقال تعالى في سورة مريم
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّا
أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا }
وقال عز من قائل في سورة يونس { وَالَّذِينَ كَسَبُواْ
السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ..إلخ }
ومعناه الذين كسبوا السيئات في دار الدنيا جزاء سيئة بمثلها في الآخرة وترهقهم
ذلة .
وقال تعالى في سورة النحل
{ تَاللّهِ لَقَدْ
أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ
أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ومعناه : تالله لقد أرسلنا رسلاً
إلى أمم من قبلك يا محمد فلم يؤمنوا لأنّ الشيطان زيّن لهم أعمالهم الفاسدة
فأهلكناهم بسبب كفرهم { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ } أي أنّ الشيطان وليهم وصاحبهم
اليوم في عالم البرزخ يعني استولى عليهم واستحكمَ فيهم{ وَلَهُمْ } يوم
ألقيامة { عَذَابٌ أَلِيمٌ }
وقال عز من قائل في سورة
الحج { وَمِنَ النَّاسِ مَن
يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ
.كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى
عَذَابِ السَّعِيرِ } يعني { مَن تَوَلَّاهُ } في دار الدنيا { فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ } في الآخرة عن طريق
الصلاح { وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ
السَّعِيرِ } في الآخرة ، ويريد
بذلك الطبقات الغازية وسنان الشمس .
وقال تعالى في سورة
المؤمن { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا
غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ
أَشَدَّ الْعَذَابِ } فالنار هنا يريد بها الشمس والدليل على ذلك قوله تعالى { يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } ولم يقل يدخلون
فيها ، لأنهم يعرضون على الشمس فيصيبهم من حرّها
ويتألّمون من أشعّتها .
وقال تعالى في سورة الزخرف { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ
لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ . وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم
مُّهْتَدُونَ . حَتَّى إِذَا جَاءنَا
قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ
. وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ
مُشْتَرِكُونَ }، فقوله تعالى { نُقَيِّضْ لَهُ
شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } يعني يكون قرينه في عالم البرزخ . { حَتَّى إِذَا جَاءنَا } بعد موته { قَالَ } الكافر للشيطان { يَا لَيْتَ بَيْنِي
وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ } كنت لي في دار الدنيا وفي عالم البرزخ .
و قال تعالى في سورة
الواقعة { وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ
الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ . فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ . وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ .
إِنَّ هَذَالَهُوَحَقُّ الْيَقِينِ} ، فقوله تعالى { فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ } يعني منزل فيه
الحرارة ، وهي حرارة الشمس وسنانها { وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } يوم القيامة .
وقال عزّ وجل في سورة
الجنّ { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ
رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا } لأنّ الطبقات الغازية
فوقهم فيسلكون طريقها ويصعدون إليها فيتعذّبون بِحَرارة الشمس ، لأنّ
الشياطين تأخذهم إليها كاذبين عليهم وساخرين بهم وهذا ما
يفعله العدوّ بعدوّه .
وقال تعالى في سورة الليل { وَأَمَّا مَن بَخِلَ
وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى . وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} .
وقال تعالى في سورة
الغاشية { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ . تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً } يعني { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } في الدنيا ولكن لغير الله ،{ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً } يوم القيامة .
وقال تعالى في سورة البقرة{ اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ
آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ
أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ، فالطاغوت هم الشياطين.
وملخّص القول إن العذاب في البرزخ لا يكون في جهنّم ولكن إما أن
يسلّط الله عليه بعض النفوس الشرّيرة فتؤذيه ، وإما أن يسلّط عليه بعض
الشياطين أو بعض الجن أو يسلّط عليه أرواح بعض الحيّات والعقارب أو
يكون فقيراً ذليلاً أو يكون جائعاً عطشاناً لا يرتوي أو غير ذلك مما يجعله
مهموماً لا يهنأ له عيش ولا يطيب له خاطر .
سؤال 10 : لماذا تذهب النفس الكافرة مع الشياطين
فيعذّبوها فلولا امتنعت عن الذهاب معهم لتخلّصت منهم ؟
جواب : إنّ النفس الكافرة لا
يمكنها أن تمتنع عن الذهاب معهم ولا التخلّص منهم ، كما أنّ المجرم في دار الدنيا إذا
جاءه عشرة من الشرطة وأرادوا أخذه إلى المركز فهل يمكنه أن يمتنع عنهم ؟ على أنّ
المجرم يكون أعزل من السلاح والشرطة حاملي البنادق ، كذلك النفس لا يمكنها أن تهرب وتتخلّص
من الشياطين إن كانت كافرة . قال الله تعالى في سورة الإسراء
مخاطباً إبليس :
{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ
عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ
وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا}
فإن كانت النفس الكافرة
خائفة جبانة فيأتي إليها أحد الشياطين وبيده السلاح فيصرخ بها
فيزداد خوفها فتسلّم له أمرها فيضع القيد في يديها وسلسلة في
رقبتها ويقودها معه فتطيعه ،
وذلك معنى قول الله تعالى { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ
اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } أي خوّفهم بصوتك ،
أما إذا كانت النفس
الكافرة لا تخاف وهي من الشجعان جاءها جيش من الشياطين منهم الخيّالة
ومنهم الرجّالة وبأيديهم السلاح فترهبهم وتنقاد معهم
فيأخذونها مغلولة الأيدي ويعذبونها أنواع العذاب ، وهذا معنى قوله تعالى { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم
بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ }أي بخيّالتك ورجّالتك ،
أما قوله تعالى { وَشَارِكْهُمْ فِي
الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ } قلنا فيما سبق أن كلّ شيء
مادّي يتكوّن داخله هيكل أثيري مثله فإذا تحطم المادي
فان الأثيري يبقى ولا يتحطّم ، فمن جملة الأموال التي
يشاركهم بها الشيطان هي الخيل، فإذا كان لأحد الكافرين والمشركين خيل ثم ماتت فإنّ
الشياطين تأخذ أرواحها وتركبها ، وكذلك الأثاث والمتاع ، أمّا مشاركتهم في الأولاد
فإنّ الشياطين يأخذون أولاد الكافرين بعد موتهم ليخدموهم في عالم البرزخ .
وقال تعالى في سورةمريم في قصة إبراهيم { يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ
الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا } ، أقول فهل أحد يرى الشيطان ليعبده ؟ كلاّ ، ولكن المعنى : لا تتبع
الشيطان في الدنيا فيستخدمك في عالم البرزخ فتكون عبداً خادماً له .
إذا حضرتك الوفاة وعرفت أنّك ستنتقل عن قريب من العالم المادّي إلى العالم
الأثيري فاستغفر لذنبك وتضرّع لربّك وتعوّذ من الشيطان وقل :
((اللّهمَّ اعطفْ عليَّ برأفتكَ وأدخلني في
رحمتكَ واجعل لي مكاناً في جنّتِكَ ، اللّهمَّ اصرفْ عنّي شرَّ
الجان وكيدَ الشيطان ، إنّكَ أنتَ الكريمُ المنّان ، اللّهمَّ فاستجبْ دعائي واجعل ملائكتكَ رفقائي
ولا تجعل الشياطين أوليائي ، اللّهمَّ أنت وليّي في الدنيا والاخرة توفّني مسلماً
وألحقني بالصالحين ، اللّهمَّ إنّي من الدنيا ارتحلتُ وبجواركَ نزلتُ وبابَكَ طرقتُ فارحمني
برحمتكَ وأعطني من كرمكَ وأجِرني من سخطكَ ، اللّهمَّ إني أعوذُ بكَ من هَمَزاتِ الشياطين وأعوذُ
بكَ ربي أن يحضرون ، اللّهمَّ أعطني منايَ واجعل الجنّةَ مأوايَ ورحمتَكَ قِرايَ ، إنّكَ
أنتَ أرحمُ الراحمين .))
كرّر قراءة هذا الدعاء
قبل الموت وبعد الموت ، ويصحّ قراءتُهُ قبل النوم في كلّ
ليلة لأنّ النائم كالميّت .
أما ماذكره الله تعالى للمؤمنين في الآخرة قوله تعالى قي سورة آل
عمران { وَلاَ تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ
بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ
وَأَنَّ اللّهَ لاَيُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } ، فقوله تعالى { عِندَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ} يعني في الجنان لهم
رزق من ثمار الجنة ، وقوله تعالى { فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ } يعني من المتاع والأثاث والزينة {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ
بِهِم} يعني بالذين لم
يبلغوا مبلغ الرجال بل ماتوا وهم أطفال ،فلما وجدوهم أمامهم في الجنة فرحوا بهم
واستبشروا ،وذلك لأنّهم كانوا يظنّون أنّهم عدموا من الوجود بموتهم ، فلما
انتقلوا إلى عالم الأثير وجدوهم أحياء غير معدومين فاستبشروا بهم وفرحوا بلقياهم ، ومنهم
أولادهم الذين ماتوا أطفالاً ولم يلحقوا بالآباء في الطول ولم يكونوا رجالاً ، وذلك
قوله { مِّنْ خَلْفِهِمْ } وأصلها من خَلَفِهم ,بفتح الخاء واللام وكسرالفاء
والخَلَف هم الأولاد ، ثم قال تعالى
{أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } يعني لا خوف عليهم من النفوس الشرّيرة والشياطين والجن ، ولا هم يحزنون
كما يحزن الكافرون في عالم البرزخ لِما يصيبهم من الإهانة والتعب .
وقال تعالى في سورة آل عمران { فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ
لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ
عَظِيمٍ} فقوله تعالى { بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ } يعني التي تأتيهم بها الملائكة وترشدهم اليها ،
وقوله { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } يعني من الشياطين
والجن والنفوس الشريرة لأنّهم في السماوات الأثيرية بعيدين عن الشياطين . وقال
تعالى في سورة يونس { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ
وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ } فقوله تعالى { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ
الْحُسْنَى } يعني في الآخرة
لهم الحسنى وزيادة من الله { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ } كما يرهق
الكافرين { وَلاَ ذِلَّةٌ } كما يلحق الفاسقين
والمنافقين في عالم البرزخ { أُوْلَئِكَ } المؤمنون { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ } بعد موتهم .
وقال عزّ من قائل في سورة الليل { فَأَمَّا مَن أَعْطَى
وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } يعني بعد موته
نيسّره لليسرى وذلك في عالم البرزخ.
وقال تعالى في سورة الانعام { لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ
وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } والمعنى لهم دار السلام عند ربهم في عالم الأثير وهي الجنة ،
والله يتولى أمورهم جزاء بما كانوا يعملون .
وقال تعالى في سورة النحل { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن
ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، فقوله تعالى { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً
طَيِّبَةً } يعني في الآخرة ، اي
في عالم الأثير ، فالمؤمنون لهم حياة طيبة ، والكافرون لهم معيشة ضنكا ،
وقوله { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعني في الجنة . وقال عزّ وجلّ في سورةالحج { فَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } يعني في الجنة لهم رزق
كريم . وقال ايضاً [في نفس السورة] { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ
مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ } ، فقوله تعالى { لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ
} يعني في الجنة .
وقال عز من قائل في سورة الواقعة { فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ
الْمُقَرَّبِينَ . فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ . وَأَمَّا
إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ . فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ
الْيَمِينِ } فقوله تعالى { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } يعني له راحة ورياحين في
الجنة
{ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ } يوم القيامة .
وملخص القول إنّ النعيم في البرزخ أي بعد الموت لا يكون في الجنة
ذاتها لسائر المؤمنين ، بل هي خاصة للأنبياء والشهداء والأتقياء .
وذلك لأنّ المؤمنين سوف يدخلون جنة المأوى بعد موتهم ، وهي أول طبقة
قريبة من الأرض ، والتي فيها يكون المأوى . ثمّ يوم القيامة يُحاسَبون وبعد الحساب
والمحاكمة سوف يدخلون في جنة النعيم (أو
جنة الخلد) .
أما المؤمنون المذنبون فلا يدخلون الجنة حتى يستوفوا عقابهم على الأرض .
إن
المذنبين من المؤمنين والموحدين سوف يعاقبون على الأرض إما بالجوع أو العطش أو العري أو السجن في القبر خق غير
ذلك ، فعندما تنتهي عقوبته ، يطلق سراحه وتأخذه الملائكة إلى جنة المأوى ، وذلك
قوله تعالى في سورة الانشقاق { فَأمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ
. فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً . ويَنْقَلِبُ إلَى أهْلِهِ مَسْرُوراً } ، فالحساب هو العقاب على الأعمال السيئة ، ومن
ذلك قوله تعالى في سورة إبراهيم { إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } أي سريع العقاب . وقوله تعالى { فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً } وذلك على الأرض في عالم البرزخ . { ويَنْقَلِبُ إلَى أهْلِهِ مَسْرُوراً } أي يرجع بعد انتهاء عقوبته إلى أهله الجدد في
جنة المأوى مسروراً . وأهله هم الذين ماتوا قبله من زوجات وأطفال في حال كون زوجته
مؤمنة تقية ، وكذلك زوجاته من الحور العين في الجنة .
فالأهل
تعني العائلة وتعني الزوجات والأطفال ، والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة طه ،
متحدّثاً عن قصة موسى : { إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا
إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} ولم
يكن مع موسى غير زوجته وإبنيه .
هذا عن
الحساب في عالم البرزخ .
أما
يوم القيامة ، فسوف يحاسَب محاكمة طويلة ، وذلك يكون في المحشر ، ثم يدخل جنة
الخلد بمغفرة ورحمة الله .
قال
تعالى في سورة القارعة { فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ
فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } أي
من طالت محاكمته يوم القيامة فسوف يدخل الجنة بعد المحاكمة ويتنعّم فيها ويرضى .
أما أصحاب الكبائر
: فيكون عذابهم في النار ، كلّ حسب ذنوبه .
وقد
ذكرت تفسير هذه الآيات باختصار في هذا الكتاب ، وستجد شرحها بالتفصيل في كتابي
(حقائق التأويل في الوحي والتنزيل ) الذي سيُطبَع عن قريب بعون الله .
يقول بعض الناس أنّ الحساب يكون في القبر وذلك بأن يأتي
الملكان وهما (منكر ونكير ) يحاسبان الميت
ويسألانه عن ربه ودينه
ونبيه وعن غير ذلك .
وأقول ليس في القبر حساب ولا منكر ولا نكير ، وإنّما الحساب والمحاكمة
ودخول الجنة ودخول جهنّم كلّ ذلك يكون يوم القيامة.
وأقول إنّ المحاكمة ليست للجسم الميت ، بل المحاكمة تكون
للنفس الأثيرية ، لأنّ الجسم بعد انفصال النفس منه سيكون كالخشبة الملقاة على
الأرض : لا يسمع ولا يرى ولا يفهم . بينما النفس تسمع وترى وتفهم . فالمحاكمة تكون
فقط للنفس حصراً .
بالإضافة لذلك ، فليس كل الناس يحاسبون وقت موتهم ولكن
المؤمنون فقط يحاسبون ، بينما الكافرون لن يحاسَبوا بل سيدخلون جهنم بدون محاكمة .
وبالإضافة فإنّ المحاكمة سوف تكون يوم القيامة ، والدليل على ذلك قول الله تعالى
في سورة البقرة { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ
النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ
كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }فبيّن سبحانه أنّ
الحكم يكون بينهم يوم القيامة ، ولم يقل إن الله يحكم
بينهم في القبر أو عند الموت .
وقال تعالى في سورة آل عمران { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا
تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ
وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ
الْغُرُورِ } ،
وقال تعالى في سورة الروم { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ
يَتَفَرَّقُونَ . فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي
رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ . وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } ، فالمؤمنون في
روضة يحبرون , والكافرون في العذاب محضرون .
وقال تعالى في سورة يس { قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا
وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ } ، فبيّن سبحانه أنّ هؤلاء الكافرين إذا
صار يوم القيامة وخرجوا من قبورهم حينئذٍ يقولون { هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ
الْمُرْسَلُونَ }. فلو كان في القبر حساب لقالوا ذلك في القبر عند معاينة منكر ونكير
.
وقال تعالى في سورة ابراهيم { وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ
الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ . مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي
رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء }، فبيّن سبحانه أنّه ليس
بغافلٍ عمّا يعمل الظالمون ولكنّه تعالى يؤخّرهم ليوم مماتهم فيعاقبهم على أعمالهم
.
وقال تعالى أيضا في نفس السورة { وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ
يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ }.
وقال تعالى في سورة النحل { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ
لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } فبيّن سبحانه وتعالى
أنه يوم القيامة يتبيّن لهم الحقّ من الباطل فيما اختلفوا
فيه في دار الدنيا ، فلو كان في القبر حساب لبيّن لهم ذلك
في القبر .وقال سبحانه في سورة طه { مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ
يَحْمِلُ الأَصْفَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا . خَالِدِينَ فِيهِ
وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا }.
وقال تعالى في سورة الانبياء { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ
الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ
خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } ، فالموازين هي قوانيين الحكم .
وقال تعالى في سورة الزمر { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ . ثُمَّ
إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } فبيّن سبحانه أنّ
المخاصمة تكون يوم القيامة .
وقال تعالى في سورة الحج { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ
اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ }
وقال أيضاً [في نفس السورة]{ اللَّهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } ،
وقال تعالى في سورة العنكبوت { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ
أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ }
سؤال 11 :أنت تقول لا يدخل الإنسان الجنّة ولا النار إلاّ يوم القيامة إذاً فما
معنى قوله تعالى في سورة ي س
{ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ
قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ
الْمُكْرَمِينَ }
وقال تعالى في سورة نوح { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ
أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ
أَنصَارًا } ؟
الجواب : إنّ دخول الجنة والنار في عالم البرزخ هو خصوصي لا عمومي ، أما
الجنة فلا يدخلها في عالم البرزخ إلا الأنبياء والاولياء وبعض الشهداء
والمتّقين الموحّدين . وكذلك دخول النار هو خاصّ لكل أُمة كذّبت رسولها
مواجهة ، وأماالذين لم يأتهم نبي ّ فهؤلاء لا يدخلون
النار في عالم البرزخ بل يكون ذلك يوم القيامةّ لأنهم لم
يشاهدوا النبي بأعينهم بل نقل لهم عنه آباؤهم ، ثانياً إنّ النار التي يدخلها الكافرون في
عالم البرزخ ليست هي جهنّم التي يدخلونها يوم القيامة بل هي براكين الأرض .
جاء في كتاب (الأرواح) لابن القيّم صفحة 42 ما
يأتي :
"وقال أبو محمد بن حزم في كتاب (الملل والنحل) له وأمّا من ظنّ
أنّ الميّت يحيا في قبره قبل يوم القيامة فخطأ : إنّ الآيات التي ذكرناها تمنع من
ذلك ، يعني قوله تعالى في سورة غافر { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا
اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } وقوله تعالى في سورة البقرة { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ
وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } ، قال : ولو كان الميت يحيا في قبره لكان تعالى قد أماتنا ثلاثاً
وأحيانا ثلاثاً وهذا باطل وخلاف القرآن إلا من أحياه الله تعالى آيةً لنبي من
الأنبياء"
وأقول إنّ النعيم في عالم البرزخ وكذلك العقاب والحساب هو للنفوس
خاصةً دون الأجسام ، لأنّ النفس آمر والجسم مأمور . فالجسم ليس إلا أداة بيد النفس
تستعمله كيف تشاء . ولنعطِ مثلاً على ذلك : مثل سائق سيارة دهس رجلاً ومات هذا
الرجل ، فهل تحاكَم السيارة وتُسجَن أم السائق هو الذي يحاكَم ويُعاقَب ؟
وعلى هذا فالنفس هي التي تعاقَب على جرائمها وليس العقاب للجسم .
وقد ذكر الله تعالى لنا كثيراً من آيات القرآن التي تخصّ النفس بالشر
:
فقد قال تعالى في سورة يوسف في قصة يوسف وزليخا { وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي ، إنَّ النّفْسَ لأمّارَةٌ بِالسُّوءِ } ، وقال تعالى في سورة
طه ، مخبراً عن موسى والسامري { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ . قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ
قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } ، وقال تعالى في سورة
يوسف { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ
أَنفُسُكُمْ أَمْرًا } ، وقال تعالى في سورة المائدة { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ
قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } فلم يقل سبحانه : فطوّعت له يده قتل أخيه ، بل
قال { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ } ، وذلك لأنّ اليد ليست
إلا أداة تستعملها النفس كما تشاء . والمثل على ذلك هو مثل سائق السيارة: إن صدم
رجلاً وقتله ، فهل السيارة هي التي تعاقَب أم النفس هي التي تعاقَب لا السائق ؟
فالنفس هي السائق بينما الجسم هو ليس إلا أداة بيد النفس تحرّكه كيف تشاء .
ولهذا فالعقاب هو للنفس خاصة بينما الجسم سوف يتفسّخ ويكون تراباً .
قلنا في كتابنا (الكون والقرآن) أن يوم القيامة هو اليوم الذي تتمزّق
فيه الأرض والمجموعة الشمسية بأسرها، فاذا كان ذلك فإنّ
النفوس تنفر من الأرض وتنتشر في الفضاء وهنالك يكون
المحشر أي يكون في الفضاء ، ومثل ذلك يكون كمثل كورة زنابير ملتصقة في أحد السقوف
فأصابها حجر فتمزّقت الكورة وسقطت , فإنّ الزنابير تنتشر في الفضاء إذ لم يبق لها
مأوى تأوى إليه ، فكذلك النفوس إذا تمزّقت الأرض وتناثرت فأنها تنتشر في الفضاء ،
وتترك تلك القطع المتناثرة ، والحساب والجزاء أيضاً يكون في الفضاء .
قال الله تعالى في سورة
المؤمن { يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا
يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ
الْوَاحِدِ
الْقَهَّارِ } ، فقوله تعالى { بَارِزُونَ } يعني ظاهرون
للعيون لا يمكنهم أن يستتروا لأنّهم في
الفضاء ولم تبقَ لهم أرض يختفون بها .
وقال تعالى في سورة شورى { اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم
مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن
مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ } ، فقوله تعالى { مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ } لأنّ الأرض تتمزّق ولا
يبقى لهم ملجأ يلجئون اليه فينتشرون في الفضاء .
وقال تعالى في سورة
إبراهيم { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ
غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } فالبارز هو الظاهر
للعيون ، وفي ذلك قال عمرو بن كلثوم
ترانا بارزينَ وكلّ حيٍّ قدِ اتّخَذُوا مخافتَنا
قَرينا
وقال الله تعالى في سورة القمر { خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ
يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } يعني تنتشر النفوس في
الفضاء كما ينتشر الجراد .
وقال تعالى في سورة القارعة { يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ
كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ } والفَراش بفتح الفاء هي الحشرات التي
تتطاير حول المصباح وفي ذلك قال الشاعر :
إنّ لِلناسِ حولَ خدّيكِ
حَوماً كالفَراشِ الذي علَى النارِ
حاما
وقال جرير :
كأنّ الذينّ هجَوني من
ضلالتِهمْ مثلَ الفَراشِ وحرّ النارِ
إذْ يقعُ
والمبثوث معناه المنتشر ،
وفي ذلك قال النابغة
وأنتَ كالدهرِ مبثوثاً
حبائلُهُ والدهرُ لا ملجأٌ منهُ ولا هَرَبُ
وقالت الخنساء :
ومبثوثةٍ مثلَ الجرادِ
وزعتُها لَها زجَلٌ يملأ القلوبَ منَ
الذعرِ
وقال الله تعالى في سورة القيامة { يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ
. كَلَّا لَا وَزَرَ . إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } يعني يكون المستقر
إليه في السماء لأنَ الكواكب السيارة تتمزّق .
وقال تعالى في سورة يس { إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ
لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } يعني لدينا في السماء .
وقال ايضاً في نفس السورة { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ
فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } يعني إليه يصعدون
في السماء .
وقال تعالى في سورة العنكبوت { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي
السَّمَاء وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } والمعنى : وما أنتم
أيها الناس بمعجزي الله في ألأرض حيث أنّكم ماديون تسكنون الأرض
ولا بمعجزيه في السماء لَمّا تكونون أثيريين تنتشرون في الفضاء .
وقال تعالى في سورة الرحمن { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ
اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا
لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ } وهذا القول يقال لهم يوم القيامة ، والمعنى :إن استطعتم أن تخرجوا من
جوانب السيارات والأرض اللاتي تمزّقن فاخرجوا .. إلخ
، وذلك لأنّ المحشر يكون في فضاء السيّارات المتمزّقة .
وقال الله تعالى في سورة الانشقاق { وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ . وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا
وَتَخَلَّتْ } يعني وألقت ما
فيها من الناس والمخلوقات وتخلّت ، يعني فرغت
منهم لأنهم يحشرون في الفضاء . وقال تعالى في سورة الاعراف { قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ
وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } يعني تخرجون من الأرض فلا
يبقى أحدٌ فيها فكلّكم تصيرون إلى الفضاء.
قلنا فيما سبق أنّ المحشر يكون في الفضاء وأقول
إنّ البعث والحشر والحساب والجزاء والعقاب كلّ ذلك يكون
للنفوس ولا حاجة للأجسام .
قال الله تعالى في سورة البقرة { وَاتَّقُواْ يَوْمًا
تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ
لاَ يُظْلَمُونَ } فإنّه تعالى خصّ النفوس بالجزاء دون
الأجسام .
وقال تعالى أيضاً [في نفس السورة] { وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن
نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ
وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } فإنّ الله تعالى خصّ النفوس بذلك دون الأجسام.
وقال تعالى في سورة آل عمران { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ
فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } فإنّ الله تعالى خصّ
النفوس بالمكافآت على أعمالها دون الأجسام . وقال ايضاً [في نفس السورة] { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ
نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ ..إلخ }.
وقال عزّ من قائل في سورة إبراهيم { لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ
اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
وقال [سبحانه] في سورة ق { وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } .
وقال تعالى في سورة الجاثية { وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } ،
وقال تعالى في سورة الانفطار { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ } ،
وقال تعالى في سورة يونس { هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ
وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ
يَفْتَرُونَ }
وقال تعالى في سورة ال عمران { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ
يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا
كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } ،
وقال تعالى في سورة النحل
{ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ
نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ
لاَ
يُظْلَمُونَ } ،
وقال تعالى في سورة يس { فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا
كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ، وقال تعالى في سورة الزمر { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ
أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } ،
وقال تعالى في سورة المؤمن { الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا
ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } ،
وقال تعالى في سورة المدثر{ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ . إِلَّا
أَصْحَابَ الْيَمِينِ } ،
وقال تعالى في سورة التكوير { وَإِذَا النُّفُوسُ
زُوِّجَتْ } ،
وقال تعالى في سورة الانفطار { يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا
وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } ،
وقال تعالى في سورة الفجر{ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ
الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً . فَادْخُلِي
فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي}
وقال تعالى في سورة الإسراء {
وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ
لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ
عَنْهُ مَسْؤُولاً } فالسمع والبصر والفؤاد كلها من حواس النفس لا من أعضاء
ألجسم . وقال تعالى في سورة السجدة { وَيَوْمَ يُحْشَرُ
أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ . حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا
شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ} فالسمع والبصر هما من حواس النفس
، أمّا الجلود فهي أثيرية أيضا .
قلنا فيما سبق أنّ البعث والحشر والحساب والجزاء والعقاب للنفوس ولا حاجة
لإعادة الأجسام إلى الحياة لأنّ النفس هي الإنسان الحقيقي .
قال الله تعالى في سورة يونس { هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فإنّ الله تعالى لم
يذكر حياة بعد ذكر الموت بل قال بعدها {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } يعني تموت الأجسام وإليه ترجع النفوس . وقال تعالى قي سورة الحجر {
وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي
وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ } فذكر الموت ولم يذكر بعده حياة .
وقال
أيضاً [في نفس السورة] { وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ
يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } فإنّه تعالى قال { يَحْشُرُهُمْ
}ولم يقل يحييهم ، والحشر معناه الجمع أي يجمعهم ،كقوله تعالى في سورة النمل { وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ
وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } ، وقال أيضاً
في سورة ص { وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ
أَوَّابٌ } .
وقال تعالى في سورة هود { وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم
مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا
إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } فقال تعالى { مَّبْعُوثُونَ } ولم يقل تحيون من بعد الموت ، والبعث هو إرسال الشخص من مكان الى
مكان آخر ، والمعنى : إنّكم تُبعثون من الأرض إلى السماء للحساب والجزاء ، ومن ذلك
قول طرفة :
قدْ يَبعثُ الأمرَ
العظيمَ صغيرُهُ
حتّى تَظَلَّ لهُ الدماءُ تَصَبّبُ
وقال حسان :
وانتَصَيْنا نَواصِيَ
اللّهوَ يوماً
وبَعَثْنا جُناتَنا يَجْتَنُونا
وقال امرؤ القيس :
بعثتُ إليها والنجومُ ضواجعٌ حذاراً عليها أنْ تهبَّ فتسمعا
وقال أيضاً:
بَعَثْنا رَبِيئاً قبلَ ذلك مخمّلاً
كذئبِ الغَضَى يَمشي الضَّراءَ ويَتَّقِي
وقال عنترة :
وصحابةٍ شُمِّ الأنوفِ
بَعَثْتُهُمْ ليلاً
وقدْ مالَ الكَرَى بِطِلاها
وقال الله تعالى في سورة المائدة { وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا } ومعناه : أرسلنا فيهم
اثني عشر نقيباً . وقال تعالى في سورة النحل { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي
كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ ..إلخ } ، وقال
تعالى في سورة الفرقان { وَلَوْ شِئْنَا
لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا }
وقال تعالى في سورة المؤمنون { ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ
ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ . ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ
تُبْعَثُونَ } فإنّه تعالى قال
{ تُبْعَثُونَ } ولم يقل تحيون .
وقال تعالى في سورة الجاثية { قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ
يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكَثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .
وقال تعالى في سورة ألفرقان { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ
اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا
السَّبِيلَ }
وقال تعالى في سورة ق { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ } فإنه تعالى لم يذكر بعد
الإماتة حياة بل قال بعدها { وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ } ،
وقال تعالى في سورة السجدة { وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ
أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ . قُلْ
يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ
تُرْجَعُونَ }فأخبر سبحانه بأنّ
أجسامهم إذا ضلّت في الأرض وتناثرت لا حاجة لخلقها جديداً لأنّ الحساب
والجزاء يكون للنفوس ، والنفوس باقية لا تموت بل تموت الأجسام ،
وذلك قوله { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ
الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } فإنه تعالى لم
يذكر حياة بعد ذكر الوفاة بل قال بعدها { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ
تُرْجَعُونَ }
وقال تعالى في سورة الدخان { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ
رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ } فإنه سبحانه ذكر الموت ولم يذكر بعده حياة .
وقال تعالى في سورة الحديد { لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي
وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ،
وقال تعالى في سورة المعارج { كَلَّا إِنَّا
خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ . فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ
وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ . عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } ، والمعنى إنّنا
قادرون على إحياء الأجسام الميتة وننشىء فيها نفوساً أحسن وأصلح من
هؤلاء الكافرين ولكنّنا غير مسبوقين لذلك، أي لم يسبق لنا أن نفعل
ذلك فنحيي الاجسام الميتة وننشىء فيها نفوساً جديدة بل نخلق أجساما حديثة في
الأرحام وننشىء فيها نفوساً أخرى .
وقال تعالى في سورة الواقعة { نَحْنُ قَدَّرْنَا
بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ . عَلَى أَن نُّبَدِّلَ
أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ . وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ
النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ } فقوله تعالى { وَمَا نَحْنُ
بِمَسْبُوقِينَ . عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ } يعني لم نسبق لنا أن نحي الأجسام الميتة
كما تظنون وننشىء فيها نفوساً أمثالكم ولكنّكم تقولون أقوالاً
لا تعلمون أصلها ولا كيفيّتها فتقولون : من يحيي العظام وهي رميم ، فتظنّون أنّ الإنسان هو
الجسم المادّي ، ولو علمتم علم اليقين لعرفتم أنّ الإنسان هو النفس الأ ثيرية
ولعرفتم أنْ لا حاجة إلى إعادة الأجسام المادّية .
قال تعالى في سورة الروم { وَيَوْمَ
تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ
كَانُوا يُؤْفَكُونَ . وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ
فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ
كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }
فقوله تعالى{ وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ } أي ساعة موت الإنسان
{ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا }
في الدنيا { غَيْرَ سَاعَةٍ } من الزمان { كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ } أي يكذبون في الدنيا { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ } وهم
الملائكة والأنبياء { لَقَدْ لَبِثْتُمْ } في الدنيا
{ فِي كِتَابِ اللَّهِ } أي بما كتب الله لكم من العمر
{ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ } أي إلى يوم موتكم وبعثكم
من أجسامكم { فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ } الذي وعدناكم
به من بعثكم من أجسامكم إلى عالم النفوس { وَلَكِنَّكُمْ
كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } الحقيقة .
وقد روي أن النبي محمداً قال : ((لا دار للإنسان بعد الموت
إلا الجنة أو النار . ))
سؤال12: أنت تقول لا معاد للأجسام وإنما البعث للنفوس ، إذا
فما معنى قوله تعالى في سورة القصص { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } ؟
جواب :إن النبي (ع) لَمّا نزل
الجحفة بين مكّة والمدينة وعرف الطريق إلى مكّة فاشتاق إليها ، فأتاه جبريل فقال :
أتشتاق الى بلدك ؟ قال : نعم , قال فإنّ الله تعالى يقول { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } ، ومعناه إنّ الله يعيدك إلى مكّة فلا
تحزن على فراقها .
ولو راجعتَ المصحف لوجدتَ أنّ الآية 85 في سورة القصص قد نزلت في
الجحفة أثناء الهجرة .
سؤال 13 : فما معنى قوله تعالى في سورة الروم { اللَّهُ يَبْدَأُ
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ؟
جواب :يعني يبدأ الخلقَ من
التراب ثم يعيده إلى التراب ثمّ إليه ترجع نفوسكم بعد الموت .
سؤال 14:فما معنى قوله تعالى في
سورة ي س { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي
الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ
فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } ؟
جواب :معناه إنّا نجعل
للجماد حياة فنخلق منه الإنسان والحيوان والنبات ، والمعنى
إنّا خلقناهم من التراب الذي لا حياة فيه ، كقوله تعالى { كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } أي كنتم جماداً فجعلكم أجساماً حيّة تأكل وتشرب وتقوم
وتقعد إلى غير ذلك ، والدليل على ذلك قوله تعالى { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا
وَآثَارَهُمْ } فالكتابة للأعمال لا تكون
في الآخرة بل تكون في الدنيا وهي كتابة الملائكة (عتيد ورقيب) .
سؤال 15:فما معنى قوله تعالى في سورة فصّلت
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ
تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء
اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي
الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ؟
جواب :تفسير هذه الآية كالّتي
قبلها ، والمعنى إنّ الذي أحيا الأرض بالمطر هو يعزّ المؤمنين بعد ذلّهم ويغنيهم
بعد فقرهم . فالموت كناية عن الذلّ والحياة كناية عن العزّ .
سؤال 16: فما معنى قوله تعالى في سورة القيامة { أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ
. بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ }؟
الجواب :معناه أيحسب الإنسان أنّنا لا نقدر على جمع عظامه وإرجاعها
على ما كانت عليه ؟ بلى قادرين على إعادة الاجسام حتّى على تسوية البنان فنجعل
الخطوط [خطوط البصمة] فيها كما كانت أوّلاً ولكن لا حاجة
إلى إعادة الأجسام .
والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة ي س { أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ
مِن نُّطْفَةٍ } فكذلك نعيد تلك العظام
البالية إلى نُطَف فنخلق منها أجنة في بطون الأمّهات ثم يولدون ثم يكبرون فيكونون
بشراً مثلهم . والدليل على ذلك قوله تعالى في آية 81 [في نفس السورة] { أَوَلَيْسَ الَّذِي
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى
وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } ، وقال تعالى في سورةالإسراء { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ
وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّرَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا } ، والمعنى أن الله تعالى يجعل فوق
تلك القبور مزرعة أو بساتيناً فتكون تلك العظام أسمدة لتلك المزرعة فتمتصّها من
الأرض وتكون أثماراً فيأكل الرجال من تلك الأثمار فتكون في أصلابهم نُطفاً ثم
تنتقل تلك النطف إلى رحم الأمّهات بالجماع ثم تكون أجنة ثم يولدون ويكبرون ويكونون
بشراً مثلهم .
سؤال 17:فما معنى قوله تعالى في سورة الحج { وَهُوَ الَّذِي
أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ} ؟
الجواب : تجد تفسيرها في كتابي
المتشابه من القرآن في سورة الحج .
سؤال 18 : فما معنى قوله تعالى في سورة النساء { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ
نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا
لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا } ؟
جواب : إنّ الجلود غير الأبدان ، فالجلود
يريد بها الجلود الأثيرية التي للنفوس فهي كالثوب الذي يلبسه الإنسان ،
وأمّا الأبدان فهي المادية ، والدليل على ذلك قوله تعالى في قصة فرعون [في سورة يونس]
{ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ
بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً } فإنّ الله تعالى سمّاها أبداناً ،
وأما الجلود فيريد بها الجلود الأثيرية التي للنفوس لأنّ
الله تعالى لم يقل بدّلناهم أبداناً غيرها ليذوقوا العذاب ، بل قال{ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا
غَيْرَهَا } ، والدليل على ذلك قوله { نَضِجَتْ } فلو قصد بذلك الأبدان
المادية لقال : كلّما احترقت أبدانهم بدّلناهم أبداناً غيرها ،
لأنّ الأبدان المادية إذا أصابتها نار الدنيا تحترق وتكون فحماً ، فكيف بنار جهنم على أنها لا تحرق بل تنضج ،
والنضج أقل من الاحتراق فهو الطهي ، وفي ذلك قال أمرؤ القيس :
فظلّ طهاةُ اللحمِ من بينِ مُنضجٍ
صَفِيـفَ شِـوَاءٍ أَوْ قَدِيْـرٍ
مُعَجَّـلِ
فالناضج هو المطبوخ الذي يصلح للأكل ، وفي ذلك قالَ شبيب :
وإِنَّي لأَغْلِي اللَّحْمَ نَيئاً
وإِنَّنِي لَمِمَّنْ
يُهينُ اللَّحْمَ وهْو نَضِيجُ
وقال لبيد :
ذا القدرَ إنْ
نضِجتْ وعجِّـ ====== ـلْ قبلهُ ما يشتوينا
يقول الشاعر لصاحبه عجِّل باللحم
المشوي قبل المطبوخ .
سؤال 19: تقول أنّ النفوس تحشر وتحاسب ولا حاجة للأجسام ، وقد قال تعالى في سورة ي س { قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن
بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ
وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ } ، أليست المراقد هي القبور ؟
وقال تعالى أيضاً { فَإِذَا هُم مِّنَ
الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } ، أليست الأجداث هي القبور؟
جواب : (المرقد) هو المكان الذي
يرقدون فيه أي يقيمون فيه سواء قبراً كان أم كهفاً أم
مكاناً آخر ، وفي المنجد يقال : (رقد الحَر ) أي سكن و( رقد عن الأمر) أي
غفل عنه و(أرقد بالمكان ) أي أقام به . أما (الجَدَث) فهو كل مكان ضيّق وفيه إنسان
يسمى جدث ، فالقبر جدث والكهف جدث وغير ذلك من الأمكنة الضيّقة . وقد قلنا
في كتابنا الكون والقرآن بأنّ الأرض ستقف عن دورتها المحورية ويكون الليل في
جهة منها والنهار في الجهة الأخرى إلى يوم القيامة ، فالجهة التي
يكون فيها النهار تكون شديدة الحرارة والجهة الأخرى تكون شديدة البرودة ، فالأرواح
في ذلك الوقت تختفي في باطن الأرض تجنباً عن الحر والبرد فتسكن في القبور والكهوف والسراديب وغير ذلك ولا
تخرج حتّى يوم القيامة فحينئذٍ تتمزّق الأرض فتخرج
النفوس من الأرض وتصعد إلى الفضاء ، ولذلك قال تعالى { فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ
إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } يعني يصعدون إليه للحساب والجزاء ، وهؤلاء هم
الكفّار والمذنبون ، أما الصالحون فيرتفعون إلى الجنان من أوّل ساعة تقف فيها
الأرض عن دورتها المحورية لأنّ العذاب يحلّ بأهل الأرض في ذلك اليوم ،فالملائكة
الموكلون بالناس لكتابة أعمالهم يصعدون إلى السماء في ذلك اليوم ولا يبقى أحد منهم على الأرض ،
فيبقى في الأرض الكافرون والمشركون والمنافقون ولذلك يقولون { قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن
بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ..إلخ
} فانظر وتأمّل
إلى الآيات الكريمة فإنّ الله تعالى لم يذكر في القبور حياة جديدة بل جاء ذكرها
للتهديم والتبعثر ، فقد قال تعالى في سورة الانفطار { وَإِذَا الْقُبُورُ
بُعْثِرَتْ } أي تهدّمت
، وقال تعالى في سورة العاديات { أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ } يعني الأجسام التي في
القبور تتبعثر وتتمزّق حيث لا حاجة فيها.
وكذلك قوله تعالى في سورة القمر { خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ
الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } ، ويعني بذلك الكافرين لأنهم يبقون في القبور لتحميهم القبور من
حرارة الشمس إلى يوم القيامة .
وقال تعالى في سورة المعارج { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ
يُوفِضُونَ } ، وهؤلاء هم الكافرون . وقال تعالى
في سورة المعارج أيضاً في الآية التالية { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ
ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } ، وقال سبحانه في سورة الحج { وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ
فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ } فانظر إلى قوله تعالى { يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ } ، فلو كان البعث للأجسام المتفسّخة
لقال سبحانه : يبعث ما في القبور ، وذلك لأنّ كلمة (من) تستعمل للعاقل
وكلمة (ما) تستعمل لغير العاقل . فالبعث
من القبور هو للنفوس وليس للأجسام المتفسّخة ، أي لنفوس الكافرين والمشركين .
في واقعة الطف في كربلاء جاء علي بن الحسين
(ع) إلى أبيه يشكو إليه من العطش ، فقال له أبوه الحسين : "إنّ جدّك محمداً
رسول الله في انتظارك ليسقيك كوب ماء فتشربه ولن تظمأ بعده أبداً ."
وعندما نتأمّل في هذه الكلمات ، ونحن نعلم
أنّ علياً بن الحسين سوف يستشهد بعد أن بشّره أبوه بهذه البشارة ، فكيف أنّ رسول
الله يعطي حفيده كأساً من الماء ليشرب ؟
فلهذا لا بدّ أنّ نفس رسول الله تنتظر نفس
علي بن الحسين لكي تعطيه ماءً ليشرب .
وبالإضافة إلى ذلك فإنّ الماء لا بدّ أنه
غير الماء الذي نشربه ونستعمله في الدنيا ، ولكن لا بدّ أنه ماء أثيري من نفس نوع
النفس .
وعلى هذا فهناك عالم كامل من الأثير ، قال
الله تعالى في سورة البقرة : { وَلا تَقولوا لِمَن
يُقْتَلُ في سبيلِ اللهِ أمْواتٌ ، بَلْ أحياءٌ ولكن لا تَشْعُرُون }
إعلم أنّ جهنّم هي الشمس وطبقاتها الغازية ،
فقد
روي عن رسول الله (ع) أنه قال : ((إذا كان يوم القيامة أُدنيَت الشمس من العباد
حتّى تكون بقدر ميل أو ميلين ، ثم تصهرهم الشمس صهراً ، فيأخذهم العرق حسب أعمالهم
: فمنهم من يغطّيه العرق إلى الكعبين ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً .))
والشمس لها جاذبية تجذب النفوس إليها يوم القيامة ولا
يفلت منها أحد إلا من أراد الله نجاته منها بعث لهُ بعض
الملائكة فأخرجته من جهنّم وقادته إلى الجنة . فالنفوس الشرّيرة يكون عذابها حول
الشمس أي في الطبقات الغازية التي للشمس وحرّها وسمومها ،
وقد ورد في كتاب البحار ((إنّ لجهنّم كلاليب مثل شوك السعدان غير أنه
لايعلم مقدار عظمها إلاّ الله تخطف الناس بأعمالهم فمنهم من
يوبق بعمله ومنهم من يجندل ثمّ ينجو)) أقول إنّ الكلاليب يريد
بها الجاذبية ولكن لَمّا كانت الناس لا تعرف الجاذبية عبّر عنها بالكلاليب ،
ومعناه إنّ لجهنّم جاذبية تجذب النفوس إليها فمنهم
من يبقى فيها معذّباً بعمله ومنهم من ينجو بعد ذلك .
قال الله تعالى في سورة النبأ { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ
مِرْصَادًا . لِلْطَّاغِينَ مَآبًا . لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } فالمرصاد يعني محل
رصد للنفوس فهي ترصدهم وتجذبهم إليها .
وقال تعالى في سورة مريم { وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى
رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا . ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ
فِيهَا جِثِيًّا } ، فقوله تعالى { وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا } يعني ولا شخص منكم إلاّ ويرد جهنّم لأنها
تجذبهم إليها ثم يبعث الله ملائكته فيلتقطون
المؤمنين ويتركون الكافرين .
وقال تعالى في سورة آل عمران { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا
تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ
وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ
الْغُرُورِ } فقوله تعالى
{ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ
النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } دليل على أنّ الناس كلهم يدخلون النار ثمّ
يتزحزح عنها المتقون ويدخلون الجنة ، أما الكافرون فلا يتزحزحون عنها بل يبقون فيها
معذّبين
وقال تعالى في سورة الإسراء { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى
وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ
زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } فالوجه يريد به الجهة ، والمعنى ونحشرهم يوم القيامة متّجهين نحو
جهنّم عمياً عن طريق الجنة وبكماً وصمّاً لِما يصيبهم من العذاب { مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } لأنَها تجذبهم إليها .
وقال تعالى في سورة الفرقان { الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى
جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ
سَبِيلًا } ، فقوله تعالى { عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى
جَهَنَّمَ } يعني يحشرون متّجهين
إلى جهنّم .
وقال تعالى في سورة الكهف { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ
عَرْضًا } والمعنى أنّها تكون
أمامهم وفي طريقهم .
وقال تعالى في سورة مريم { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ
ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا } فانظر إنّ الله تعالى قال {لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ } ولم يقل لندخلنّهم في جهنّم ، وذلك لأنّهم يكونون في الطبقات
الغازية التي حول جهنّم ، يعني يحومون حول الشمس ولا يمكنهم أن يتخلّصوا منها لأنّها
تجذبهم إليها .
وقال تعالى في سورة الحج { كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ
غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } والمعنى أنّهم يكونون كالغرقى يحومون حولها
ولا يمكنهم أن يتخلّصوا منها .
وقال تعالى في سورة المؤمنون { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ
النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } فقوله تعالى { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ } يعني تلفح النار جهتهم التي تكون مقابلة
للشمس لأنّهم يحومون حولها .
وقال تعالى في سورة الإسراء { عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ
عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا } يعني تحصرهم وتجذبهم فلا تدعهم يبتعدون عنها .
وقال تعالى في سورة إبراهيم { وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ
فِي الأَصْفَادِ . سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ} ، فالنار تغشى وجوههم لأنّهم يحومون حولها ، وقوله { مُّقَرَّنِينَ فِي
الأَصْفَادِ } يعني مقيّدين في أصفاد
الجاذبية .
وقال تعالى في سورة العنكبوت { يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ
لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } والمعنى أن غازاتها تحيط بهم فلا يمكنهم
التخلّص منها .
وقال تعالى في سورة السجدة { وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ
النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا } يعني أنهم كالغرقى
يحومون حولها ولا يمكنهم أن يتخلّصوا منها .
وقال تعالى في سورة شورى { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن
طَرْفٍ خَفِيٍّ..إلخ }
وقال تعالى في سورة الأحقاف { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ
كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا
وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا }
وقال تعالى في سورة الرحمن { هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا
الْمُجْرِمُونَ . يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } ، يعني يطوفون
بينها وبين طبقاتها الغازية .
وقال تعالى في سورة الواقعة { وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ
مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ. فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ . وَظِلٍّ مِّن
يَحْمُومٍ . لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ } فالسموم يريد بها سموم الشمس ، والحميم
طبقاتها الغازية ، وظل من يحموم دخانها ،
وقال تعالى في سورة المدثر { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ .
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ . لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ } أي لا تبقي أحداً في
الفضاء من النفوس إلاّ جذبته إليها .
وقال تعالى في سورة النساء { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ
وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ
لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً . إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا
وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا } يعني لا يرشدهم إلى طريق الجنّة ولكن
يرشدهم إلى طريق جهنم لأنها تجذبهم إليها .
والخلاصة إنّّ جهنّم هي الشمس ، والشمس لها جاذبية
تجذب النفوس إليها والعذاب يكون للنفوس لا للأجسام ،
قال الله تعالى في سورة الملائكة { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ
فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ
كَفُورٍ } فلو كان الإنسان يدخل
النار بجسمه المادّي فكيف لايموت وهي نار جهنم وإنّ
أقلّ نار من نار الدنيا تميت الإنسان ، ولكن لما كان العذاب للنفوس جاز أن يقول :{ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ
فَيَمُوتُواْ } ، لأنّهم نفوس والنفوس
لا تموت ولو في النار .
وقال تعالى في سورة إبراهيم { وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ
بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ }
وقال عزّ من قائل في سورة طه { إِنَّهُ مَن يَأْتِ
رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا
يَحْيى } .
روي في كتاب البحار
قال ((يأتي زمان على جهنم ينبت فيها الشلجم )) ، أقول إنّ الشمس إذا برد
وجهها وصارت كواكب سيّارة لاشك أنه يكون عليها نبات .
وجاء في الصحيحين قال
النبي (ع) ((لا تزال جهنم يلقى فيها
وتقول هل من مزيد حتّى يضع ربّ العزّة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض)) . فقوله ((حتى
يضع فيها قدمه )) أي حتّى يمضي عليها زمن طويل وتكون قديمة العهد فحينئذٍ ينزوي بعضها إلى
بعض ، يعني تتقلّص فيصغر حجمها وتعليل ذلك أنّ الشمس إذا انتهت حياتها فإنّها
تتقلّص ويبرد وجهها ويكون لها قشرة أرضية ، ثمّ تنفجر وتكون كواكب سيّارة أي
تكون أراضي وقد سبق تعليل ذلك في كتابنا (الكون والقرآن) .
Man after
Death An
Hour with Ghosts The
Universe and the Quran The
Conflict between the Torah and the Quran الخلاف بين التوراة و
القرآن
الكون والقرآن المتشابه من القرآن ساعة قضيتها مع الأرواح