كتاب الإنسان بعد الموت الصفحة
الرئيسة
الموقف
والحساب
قلنا
فيما سبق أنّ المحشر يكون في الفضاء الذي فيه الشمس والكواكب السيارة أي في فضاء
المجموعة الشمسية التي تتمزّق في ذلك اليوم ، وهناك تكون الغازات المنبعثة من
الشمس ، فحينئذٍ يصرخ إسرافيل بالناس ويقول : (هلمّوا يا عباد الله إلى الحساب والجزاء
) ، فتلبّيه الناس وتجتمع عنده ، فحينئذٍ ينزل جبرائيل ومعه الملائكة من السماوات
الأثيرية إلى المحشر ، فتصطفّ الملائكة صفوفاً ويقف جبريل أمامهم وتجتمع عنده
الأنبياء والأولياء وهناك تكون المحاكمة والحساب ، والحساب يكون للموحّدين
الصالحين ، أما الكافرون والمشركون فلا حساب عليهم لأنّه لا يدخل أحد الجنة إلاّ
بعد المحاكمة والحساب ، وأوّل من يُحاسَب هم الأنبياء فإنّ الله تعالى يحاسبهم
بنفسه فإذا انتهى حسابهم أمرهم الله تعالى أن يحاسبوا المؤمنين ويبعثوهم إلى الجنة
، فحينئذٍ تأتي الأنبياء والملائكة الذين كانوا مع الناس في دار الدنيا يكتبون
أعمالهم وهم (عتيد ورقيب) فيحاسبون المؤمنين الموحدين ، فالأنبياء تحاكمهم
وتحاسبهم والملائكة تشهد عليهم بِما فعلوه في دار الدنيا فمَن ينتهي حسابه تأخذه
الملائكة إلى الجنة .
فيبقى المذنبون من
الموحدين في المحشر ويبقى الكافرون ، فحينئذٍ يسأل الأنبياء والأولياء والملائكة
الشفاعة فيأذن الله لمن يشاء فيمن يشاء من الموحدين فيأخذوهم إلى الجنة ويبقى
الكافرون والمشركون وأهل الكبائر في المحشر فيقولون للملائكة ألا تأخذونا معكم إلى
الجنة وتخلّصونا من العذاب ، فتقول لهم الملائكة إنكم كذّبتم الرسل وكفرتم بربّكم
وفعلتم كذا وكذا في دار الدنيا فَ{ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء
يَوْمِكُمْ هَذَا } [كما في سورة الجاثية] ، ثمّ تجذبهم سقر
إليها فيبقون حولها معذَّبين .
قال الله تعالى في سورة الأنبياء {
وَنَضَعُ
الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا
وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا
حَاسِبِينَ } ، فالموازين هي القوانين التي فيها
الأحكام الشرعية ، وذلك كقوله تعالى في سورة الشورى { اللَّهُ
الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ..إلخ
} فالموازين التي نزن بِها الفواكه وغيرها لم تنزل من السماء طبعاً . إذاً
الموازين يريد بِها الأحكام الشرعية.
وقال
تعالى في سورة الحديد { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا
بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ ..إلخ } فالميزان يريد بِها الأحكام
والقوانين ، وفي ذلك قال عبيد بن الأبرص :
ما
الحاكمونَ بِلا سمعٍ ولا
بصرِ ولا لسانٍ فصيحٍ
يُعجِبُ الناسا
فأجاب
امرؤ القيس :
تِلكَ
الموازينُ والرحمانُ
أنزلَها ربّ البريّةِ بينَ
الناسِ مقياسا
وقال
الشاعر :
قومٌ
إذا استُخصِمُوا كانوا
فراعنةً يوماً وإن
حُكِّمُوا كانوا مَوازينا
وقال حسّان :
ويثربُ
تَعلمُ أنّا بِها إذا
الْتَبَسَ الأمرُ ميزانُها
وقال تعالى في سورة الكهف {
أُولَئِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ
فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَزْنًا }
، يعني فلا نقيم لهم محاكمة كي يخرجوا من جهنّم بل يبقون فيها معذّبين .
وقال تعالى في سورة المؤمنون {
فَمَن
ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَمَنْ خَفَّتْ
مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ
خَالِدُونَ }
، ومعناه فمن طالت محاكمته فأولئك هم المفلحون ومن قصرت محاكمته فأولئك الذين
خسروا أنفسهم ..إلخ لأنّه لا يدخل الإنسان الجنة إلاّ بعد المحاكمة والحساب ،
والشاهد على ذلك قوله تعالى في سورة الأحزاب { لِيَسْأَلَ
الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا }
،
فالكافرون لا يُحاكَمون لأنّهم لا يدخلون
الجنة ، ومثال ذلك الموقوفون عندنا في دار الدنيا فإنّهم لا يطلق منهم أحد إلاّ
بعد المحاكمة ،
قال الله تعالى في سورة سبأ {
وَلَوْ
تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى
بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } ،
وقال تعالى في سورة القارعة { فَأَمَّا
مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ . فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ . وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ
مَوَازِينُهُ . فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } يعني فمأواه الهاوية ، والهاوية هي البراكين
.
وقال تعالى في سورة
الأعراف { وَالْوَزْنُ
يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ . وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ
أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ } فالوزن يريد به
المحاكمة .
وقال تعالى في سورة الزمر { وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ
وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }
.
[الصيحة]
وأما
ما جاء في الصيحة قوله تعالى في سورة ي س { إِن كَانَتْ إِلَّا
صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } ،
فالصيحة هي صيحة إسرافيل ، وقوله { لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ }
يعني في الفضاء .
وقال تعالى في سورة
طـه { يَوْمَئِذٍ
يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ
فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا } ، فالداعي هو إسرافيل .
وقال تعالى في سورة ق {
وَاسْتَمِعْ
يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ . يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ
بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ } ، فالمنادي هو
إسرافيل ، وقوله { ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ }
أي تخرجون من الأرض إلى الفضاء .
وقال تعالى في سورة القمر {
مُّهْطِعِينَ
إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ }
.
[جبريل
والملائكة في ذلك الموقف]
وأمّا
ما جاء في جبريل والملائكة قوله تعالى في سورة النبأ {
يَوْمَ
يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا
مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } ، فالروح هو جبريل
، وقوله { لَّا
يَتَكَلَّمُونَ } يعني لا يتكلّمون بالشفاعة إلاّ من أذن له
الرحمان بذلك { وَقَالَ صَوَابًا } يعني وأصاب الحقّ
بشفاعته ، فينبغي أن يتشفّع بالموحّدين فتُقبَل شفاعته ، وأما إذا تشفّع بالكافرين
أو المشركين فلا تقبل شفاعته .
وقال تعالى في سورة الفجر {
كَلَّا
إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا . وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا
صَفًّا }
، وأصلها {وجيء ربّك} يعني وجاءت النفوس إلى ربّك وهناك الملائكة واقفون صفاً صفاً
.
وقال تعالى في سورة
الأنبياء { لَا
يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا
يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } ،
وقال تعالى في سورة
الفرقان { وَيَوْمَ
تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا }
يعني تنزل من السماوات الأثيرية إلى المحشر
وقال تعالى في سورة فصلت {
إِنَّ
الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ
الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ
الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } .
وأمّا
ما جاء في محاكمة الأنبياء والرسل قوله تعالى في سورة المائدة {
يَوْمَ
يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا
إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } .
سؤال 20 :
قال
الله تعالى في سورة الرحمن { فَيَوْمَئِذٍ لَّا
يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ . يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ
بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ } ، وقال عزّ مِن
قائل في سورة الحجر { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ
أَجْمَعِيْنَ . عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ، فما هذا الاختلاف
فتارة يقول { لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا
جَانٌّ } وتارة
يقول{ فَوَرَبِّكَ
لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ } ؟
الجواب :
أما قوله تعالى{ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا
جَانٌّ }
هذه خاصة بالكافرين والمجرمين فإنّهم لا يُحاكَمون ولا يسئل منهم عن عمل عملوه بل
يدخلون جهنّم بلا محاكمة ، ولذلك قال بعدها { فَبِأَيِّ آلَاء
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ
فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ } . وأما قوله تعالى{ فَوَرَبِّكَ
لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ } هذا سؤال توبيخ وتقريع لا سؤال محاكمة
وهذا السؤال يكون في جهنّم لا في المحشر ، وذلك كما يُسأل المسجون عن سبب سجنه
فيقول عملتُ كذا وكذا من الجرائم . فالكافرون لا يُسئلون في المحشر سؤال محاكمة بل
يُسئلون في جهنّم سؤال تقريع وتوبيخ وذلك كقوله تعالى في سورة الأحقاف { وَيَوْمَ
يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا
بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ }
.
وقال تعالى في سورة الملك { تَكَادُ
تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ . قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا
وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ
كَبِيرٍ }
إنّ
الجنان التي ندخلها يوم القيامة هي أثيرية وليست بِمادية لأن التي تدخلها هي
النفوس لا الأجسام ، وموقعها في الفضاء ، وهي سبعٌ فإذا صار يوم القيامة تكون
ثمانية ، وقد سبق الكلام عنها في كتابنا الكون والقرآن بعنوان السماوات
الأثيرية
، وهنّ الحاملات للعرش
وهنّ الملقّبات بالكرسي ، فقد جاء في مجموعة التوراة في صحف إشعياء النبيّ في
الإصحاح السادس والستين قال : ((هكذا قال الربّ : السماوات كرسيّي والأرض
موطئ قدمي ))
، فالسماوات هنا يريد بِها الطبقات الأثيرية .
والجنان الأثيرية باقية
لا تفنى ولا تزول إلى الأبد ولا يعتريها عارض ، والجنان لا يعلم الناس طريق
الدخول إليها ليدخلوها
ولكنّ الله تعالى يرسل ملائكته فيرشدون المؤمنين إليها .
قال الله تعالى في سورة الأعراف { وَنَزَعْنَا
مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ
وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا
لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا
بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ}
فقوله تعالى { الْحَمْدُ
لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا } يعني يقولون إذا دخلوا الجنة : الحمد لله
الذي أرشدنا إلى طريق الجنة فدخلناها وما كنّا لنهتدي إلى طريقها لولا أن هدانا
الله إليها .
وقال تعالى في سورة الفاتحة {
اهدِنَا
الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } يعني أرشدنا إلى الطريق المستقيم الذي
يوصلنا إلى الجنة ، ولذلك قال بعدها { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ }
، فالذين أنعم عليهم هم أهل الجنة ، وذلك كقوله تعالى في سورة النساء { فَأُوْلَئِكَ
مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ
وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا }
.
وقال تعالى في سورة يونس { إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ
بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ }
، فقوله تعالى { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ }
يعني يهديهم إلى طريق الجنة بسبب إيمانهم بالله وتصديقهم بمحمّد (ع) .
وقال تعالى في سورة
الإنسان { مُتَّكِئِينَ
فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا } أقول
كيف يعيش الإنسان بلا شمس وهي حياة الإنسان ولكن النفوس هي التي تدخل الجنة دون
الأجسام فلذلك قال سبحانه { لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا
}
وذلك لأنّ النفوس تتأذّى من شعاع الشمس وحرّها وكثرة ضيائها ، والمعنى لا يرون في
الجنّة شمساً ولا قمراً ولا يصيبهم فيها حرٌّ ولا برد ، فالقمر بلغة طي يسمّى
" زَمْهَرِيرًا " ، وفي ذلك قال شاعرهم :
وليلةٍ ظلامُها قدِ
اعْتَكَرْ قَطَعتُها
والزمهريرُ ما زَهَرْ
وقال الأعشى يصف فتاة :
مبتلّة الخلقِ مثل
المهاةِ لم ترَ شمساً ولا زمهريرا
يعني لم يُصبْها حرٌّ ولا
برد .
وإنما كانوا يسمّون القمر زمهريراً لأنّهم
كانوا يظنّون أنّ البرد يأتي من القمر كما أنّ الحرّ يأتي من الشمس .
وقال تعالى في سورة البقرة {
وَبَشِّرِ
الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا
الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ
فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
فقوله تعالى { هَذَاالَّذِي
رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } يعني الذي رُزِقوا به في الدنيا
وجدوه أمامهم في الجنة ، لأنّ كلّ ثمرة لها روح فإنّهم أكلوا المادّيات في دار
الدنيا فوجدوا الأثيريات في الجنة فقالوا { هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا
مِن قَبْلُ }
، وأمّا قوله تعالى { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ }
يعني مطهّرة من الحيض والبول والغائط لأنّها أثيرية .
وقال تعالى في سورة
الرعد { مَّثَلُ
الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ
اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ } فقوله تعالى { أُكُلُهَا
دَآئِمٌ }
يعني ثمرتها موجودة دائماً فهي لا تفسد ولا تنفد لأنّها أثيرية .
وقال تعالى في سورة مريم {
تِلْكَ
الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا }
فلماذا يقول { نُورِثُ
}
لأنّ الأشجار التي كانت للكافرين في دار الدنيا يعطيها الله للمؤمنين في الآخرة
فتكون إرثاً لهم ، وذلك لأنّ الأشجار لها أرواح كما للناس نفوس .
وقال تعالى في سورة المؤمنون {
أُوْلَئِكَ
هُمُ الْوَارِثُونَ . الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
يعني يرثون ما كان للكافرين في دار الدنيا وهو الأثيري منه لا المادّي .
وقال تعالى في سورة الزخرف { وَتِلْكَ
الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ . لَكُمْ فِيهَا
فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ } .
وقال
تعالى في سورة الشعراء ، مخبراً عن قوم فرعون : { فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
. وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } ، فإنّ بني إسرائيل لم يرجعوا إلى مصر لكي
يرثوا المال والبساتين التي كانت لفرعون وقومه ، ولكن المعنى هو : أورثناهم
الأثيري منها لا المادي ، وكلّ ذلك سيكون لبني إسرائيل خاصة .
وممّا
يؤيّد هذا قوله تعالى في سورة مريم : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ
عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } ،
بينما يقول الله تعالى في سورة الرحمان { كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ
} فكيف يكون الشيء الفاني إرثاً ؟ ولكن المعنى هو : كلّ شيء من المادّيات على
الأرض سوف يتحطّم ويفنى ، ويبقى كلّ أثيري فيكون إرثاً لنا ونحن نعطيه للأتقياء والمؤمنين في الآخرة .
وقال تعالى في سورة الصافات {
أَفَمَا
نَحْنُ بِمَيِّتِينَ . إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ }
فلماذا لا يموتون ؟ لأنهم أثيريون .
وقال تعالى في سورة
الدخان { لَا
يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ
الْجَحِيمِ }
وقال عزّ مِن قائل في سورة محمد {
مَثَلُ
الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ
آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ
مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى
وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ..إلخ } فقوله تعالى { لَّمْ
يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} لأنه أثيري فلو كان مادّياً لتغيّر طعمه .
والخلاصة إنّ الجنة
أثيرية وأشجارها أثيرية وسكانها أثيريون وحورها بنات أهل الدنيا وولدانها
أولاد أهل الدنيا أي نفوسهم الأثيرية ، فأولاد الكافرين الذين يموتون قبل بلوغ
الرشد يكونون خدماً لأهل الجنة وكذلك البنات ، وأما بنات المؤمنين فهنّ الحور
يتزوّج بهنّ أهل الجنة ، وأمّا أطفال المؤمنين كلٌّ منهم يبقى عند أبويه في الجنة
يأنسون بهم ويلاعبونهم ، وذلك لأنّ نفوس الأطفال لا تكبر بعد انفصالها من الأجسام
بل تبقى على ما كانت عليه وقت مماتها . قال الله تعالى في سورة الزخرف { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ
وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ } يعني زوجاتهم اللاتي
كنّ معهم في دار الدنيا . وقال تعالى في سورة الطور { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ
غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } يعني من أولاد أهل
الدنيا يكونون غلماناً لأهل الجنة .
والخلاصة أنّ موقع الجنان في السماء (في
منطقة القمر) لا في الأرض ، ولكنّ الجنان واسعة بحيث أنّ القمر بالنسبة إليها
كالقطرة بالنسبة إلى البحر ،
قال تعالى في سورة آل عمران { وَسَارِعُواْ
إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ}
أي أنّ سعتها كسعة الكوكب السيارة على انتشارها في الفضاء .
وقال تعالى في سورة نوح : { أَلَمْ
تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا . وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ
نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا }
وقال تعالى في سورة الملك { الَّذِي
خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا } ، فالسماوات الطباق هنا هنّ السماوات
الأثيرية ، والتي شرحت عنها في كتابي الكون والقرآن .
والجنان أثيريات لا مادّيات ، والدليل على
ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف { إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا
وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } فبيّن سبحانه أنّ الجنة لا يدخلها أحد إلاّ بعد أن تفتح له أبواب
السماء ، والسماء هنا يريد بِها الطبقات الغازية .
وقال تعالى في سورة
القمر { إِنَّ
الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ . فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ
مُّقْتَدِرٍ
} يعني عنده في السماء .
وقال تعالى في سورة الحاقة {
فَهُوَ
فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ . فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } يعني في الفضاء .
وقال تعالى في سورة القلم { إِنَّ
لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ } يعني عنده في
السماء . وقال تعالى في سورة الرعد { مَّثَلُ
الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا ..إلخ } فقوله
تعالى { أُكُلُهَا
دَآئِمٌ وِظِلُّهَا } دليل على أنّها ليست في أحد الكواكب
السيارة ، فلو كانت الجنة أرضاً كأرضنا لكان الظلّ منتقلاً عليها ولم يكن دائماً ،
ولو فرضنا أنّ ذلك يكون حين وقوف الأرض عن دورتها المحورية فيكون الظلّ فيها
دائماً غير متنقّل إذاً لأصبحت جحيماً وليست بنعيم وذلك في الجهة التي تكون مقابلة
للشمس ، وأمّا الجهة التي تكون بعكس الشمس فإنّها تصبح زمهريراً لشدّة البرد فيها
، إذاً الجنة لا تكون على أرضٍ من الأراضي بل هي في السماء .
أقول إننا لا نتمكّن أن نصف الجنان على التفصيل لأنّها
أثيرية ونحن في عالم مادّي ، ولكن يكون وصفنا لها على التقريب ، وذلك ما فهمناه من
الآيات القرآنية والكتب السماوية والأدلّة العقلية ، وما شاهدته بنفسي من عالم
النفوس وذلك فيما سبق من حادثة وقعت لي بعنوان موت أم إغماء ؟
ومثالنا يكون كالذي يصف الدنيا للجنين الذي في بطن أمّه
فهو يسمع بأشياء ولكن لا يعلم ما هي ، مثلاً لو قلنا للجنين وهو في بطن أمّه أنّ
في الدنيا بساتيناً وأشجاراً وجبالاً وبحاراً وأسواقاً ودياراً وغير ذلك ، فإنّ
الجنين لا يفهم من ذلك شيئاً لأنّه لم يره ، وكذلك نحن لا نفهم عن الجنان إلا
مجملاً لأنّ الجنان أثيرية ونحن في عالم مادّي ،
فلو قلنا للجنين : إذا خرجتَ من بطن أمّك وصرت في عالم
الدنيا تجد هناك تفاحاً ،
لقال : وما هو التفاح ؟
نقول له : هو شيء لطيف مغذّي ،
لقال : وهل يوجد غذاء غير الدم ؟
نقول له : عندنا أغذية كثيرة بعضها سائل وبعضها جامد ،
لأجاب : وكيف يتغذّى الإنسان بشيء جامد ؟
نقول : يتغذّى به بعد مضغه بالأسنان ،
لقال : وما هي الأسنان ؟
نقول له : هي عظام تكون في الفم ،
لأجاب: إنّي لا أفهم ما تقولون لأنّي أتغذّى بالدم من
الحبل السرّي وأنتم تقولون إنّ غذاءنا يكون من الفم وهو شيء جامد .
فكما أنّ الجنين لا يتصوّر عالمنا الدنيوي كذلك نحن لا نتصوّر عالم الأثير على التفصيل ، ولكن
إذا دخلنا الجنة برحمة الله حينئذٍ يتبيّن لنا حقيقتها .
قلنا
فيما سبق أنّ النباتات والأشجار والأثمار لَها أرواح كما للإنسان والحيوان أرواح ،
فإذا قُطِعت شجرة من الأشجار في دار الدنيا وماتت فإنّ روحها لا تموت بل تبقى حية
على مدى السنين والدهور ، وهي غضّة مثمرة كثيرة الأغصان مملوءة بالأثمار ، لا
تتساقط أوراقها ولا تنفد أثمارها ، لا تحتاج إلى سماد ولا ماء ولا يميتها برد ولا
داء ، فهذه الأشجار الأثيرية تنتقل إلى عالم الأثير ، فكلّ شجرة طيّبة تذهب بِها
الملائكة إلى السماء فتكون من أشجار الجنة ، وهي التي يكون ثمرها طيّباً أو
رائحتها زكية كأشجار الورد والرياحين ، فيتمتّع بِها أهل الجنة ويأكلون من ثمارها
ويجلسون في ظلّها ويأنسون بمنظرها .
قال الله تعالى في سورة إبراهيم {
أَلَمْ
تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ
طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء } فقوله
تعالى { أَصْلُهَا
ثَابِتٌ }
يعني أصلها ثابت في الأرض ، ويريد بذلك الشجرة المادّية لأنّها باقية في الأرض
يتفرّع منها أشجار كثيرة ، وذلك بواسطة التقليم منها أو النواة { وَفَرْعُهَا
فِي السَّمَاء }
يعني ما يتفرّع منها من أشجار أثيرية تذهب إلى السماء فتكون من أشجار الجنة . ومن الأشجار
الطيّبة السدرة وهي شجرة النبق فهي باقية في الأرض إلى اليوم وذهب فرعها إلى
السماء فأصبحت من أشجار الجنة ، وقد رآها النبي (ع) ليلة المعراج ، وجاء ذكرها في
القرآن وذلك قوله تعالى في سورة النجم { عِندَ
سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى } وجاء ذكر السدر أيضاً في سورة الواقعة قال
تعالى {
فِي
سِدْرٍ مَّخْضُودٍ . وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } ،وأما قوله تعالى { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ
حِينٍ }
يعني أنّ الأشجار الأثيرية الطيّبة تؤتيك الثمر على الدوام فليس له وقت محدود ،
فكلمة ((أُكُلَهَا)) يعني ما يؤكل منها وهو الثمر ، وذلك قوله تعالى في سورة الرعد {
أُكُلُهَا
دَآئِمٌ وِظِلُّهَا } يعني فاكهتها موجودة على الدوام . أمّا
السدرة المادّية التي على الأرض فهي تثمر في السنة مرّتين مرّة في الربيع وأخرى في
الخريف .
ويكون طول الشجرة
الأثيرية وسعتها على قدر ما عاشت في دار الدنيا ، فكلّما عاشت أكثر تكون الشجرة
الأثيرية أطول وأوسع وأكثر أغصاناً وأثماراً ، مثلاً إنّ النخلة إذا حملت في
الدنيا خمس مرّات فإنّ النخلة الأثيرية يكون فيها خمسة صفوف من عذوق التمر ، وإذا
حملت عشر مرّات فإنّ النخلة الأثيرية يكون فيها عشرة صفوف من عذوق التمر ، وهكذا كلّما
عاشت النخلة المادّية أكثر فإنّ النخلة الأثيرية يكون حملها أكثر ، فإذا
ذهبتَ إلى عالم الأثير فإنّك ترى النخلة
الأثيرية ملآنة
بالتمر من أسفلها إلى أعلاها ، ولذلك قال الله تعالى سورة الحاقة { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ }
يعني أثمارها قريبة التناول ، لأنّ الذي في قصره نخلة يقطف تمراً من أسفلها إنْ
كان هو في أسفل القصر ، وإنْ كان في الطبقة الثانية من قصره فهو يقطف تمراً من
وسطها ، وإنْ كان في أعلى قصره فهو يقطف التمر من أعلاها ، وهكذا فهو أينما كان من
قصره فالثمار دانية منه . ثانياً إنّ النفس يمكنها أن تطير بلا جناح وتصعد إلى
السطح بلا سلّم وتنزل إلى أسفل كما ينزل الطائر وبذلك أصبحت النفوس قادرة على
تسلّق الأشجار واقتطاف الأثمار منها بسهولة بل يمكنها الوقوف على أعالي الأشجار
كما تقف الطيور . والأشجار الأثيرية لا تثمر من من جديد كما تثمر أشجارنا التي في
دار الدنيا بل تحمل ثمرتها القديمة التي حملتها في دار الدنيا وتبقى تلك الثمار
فيها لا تفسد ولا تنفد مدى الدهور ، قال الله تعالى في سورة الواقعة { وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ
مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ . فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ . وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ .
وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ . وَمَاء مَّسْكُوبٍ . وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ . لَّا
مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ } فقوله تعالى { لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا
مَمْنُوعَةٍ }
يعني لا تنتهي تلك الفاكهة من الشجرة وتنفد ولا يمنعهم أحد من أخذها فهي ملكهم
وتحت تصرّفهم إلى الأبد .
والأكل في عالم الأثير لا يكون غذاء ً
للأجسام بل يكون لمجرّد التذوّق والتلذّذ . فالإنسان مهما أكل وشرب فلا تكون معه
تخمة لأنّ الأكل يخرج من مسامات جسمه بعد ساعة على هيئة عرق ويعود كما كان أولاً ،
ولذلك لا يبولون ولا يتغوّطون ، فالفاكهة التي تأكلها تأكلها النفوس في عالم
الأثير تخرج من مسامات أجسامها وتكون فاكهة كما كانت أولاً ثمّ تعود إلى شجرتِها ،
والطير الذي تأكله النفوس يخرج من مسامات أجسامها ويكون طيراً كما كان أولاً ويعود
إلى وكره ،والسمكة التي تأكلها النفوس تخرج بعد ساعة من مسامات أجسامها وتعود إلى
النهر ، فالأكل والشرب لا يكون عندهم لتغذية الأجسام كما عندنا في الدنيا بل يكون
للتذوّق والتلذّذ ومهما أكلوا لا يكون عندهم تخمة ولذلك قال الله تعالى في سورة
المرسلات { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي
ظِلَالٍ وَعُيُونٍ . وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ . كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا
بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } وذلك لأنّهم أثيريون وأكلهم أثيري فلا تكون عندهم تخمة مهما أكلوا
وشربوا . وقال تعالى في سورة الحاقة { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ . قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ . كُلُوا
وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } فهنا أيضاً قال تعالى {
كُلُوا وَاشْرَبُوا } ولم يجعل حداً لذلك
لأنه أثيري والأثير لا يسبّب تخمة للإنسان . أما الأكل والشرب في دار الدنيا فقد
جعل له حداً فقال تعالى في سورة الأعراف
{ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ
لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } ، وذلك لأنّ الإكثار من الأكل والشرب يسبّب المرض ، وفي ذلك قال
الشاعر :
ثلاثٌ هنّ مهلكة
الأنامِ وداعية
الصحيح إلى السقامِ
دوامُ مدامةٍ ودوامُ
وَطءٍ وإدخالُ الطعامِ على
الطعامِ
وإليك تصويراً خيالياً لنخلةٍ أثيرية حملت خمس سنين في
دار الدنيا .
نخلة أثيرية حملت خمس سنين في
دار الدنيا فبقي حملها فيها
أمّا الكلمة الطيّبة فهي ذكر
الله بالثناء عليه والدفاع عنه ، أمّا ذكره بالثناء فهو كالتهليل والتكبير والحمد
والشكر له ، وأمّا الدفاع عنه فهو بأن تردع شخصاً يتذمّر من الله فتردّ عليه كلامه
وتؤنّبه ، وإذا سمعت شخصاً يكفر بالله فعليك أن تردعه وتضربه لكي لا يتلفّظ بعد
ذلك بهذه الكلمات ، وإذا لم تتمكّن من ضربه وردعه فيمكنك أن تحرّض الناس على
إهانته وردعه ، وإذا لم تتمكّن من ذلك فيمكنك أن تخبر دائرة الشرطة بذلك فيجلبوه
للمحاكمة فيردعه الحاكم ويسجنه ، ولا تقل إنّ هذا الأمر لا يعنيني ، بل يعنيك
ويعني كلّ شخص يسمع بأذنه ، فيجب عليك أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، فإذا لم
تنهَ قوماً عن منكرهم وأنت ترى ذلك بعينك فقد شاركتهم في عملهم ، وإذا لم تردع
شخصاً كافراً فقد شاركته في كفره ،فإنّ الله تعالى ذمّ قوماً من بني إسرائيل فقال
في سورة المائدة { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا
كَانُواْ يَفْعَلُونَ }فيجب عليك أن تدافع عن الله كما يدافع الله عنك ، قال تعالى في سورة
الحـج { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ
عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } . فردع الكافر عن كفره
هي الكلمة الطيّبة التي تتلفّظ بِها فإنّ الملائكة تصعد بِها إلى السماء وتكتبها
في اللوح المحفوظ فهي باقية إلى الأبد وكلّما مرّ أحد من الملائكة من هناك قرأها
فيذاع لك صيت حسن في السماء ويقال هذا الذي دافع عن الله ، قال الله تعالى في سورة
فاطر { إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } فهذا هو الكلم الطيّب ، وقال تعالى في سورة
المطففين { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ .
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ } يعني تشاهده الملائكة المقرّبون ، والكلمة الطيّبة تثمر لصاحبها
بالخير كما تثمر الشجرة بالفاكهة ، فهذا معنى قوله تعالى { كَلِمَةً
طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ }
سؤال 20: أنت تقول أنّ الجنة أثيرية وأنّ النفس هي التي تدخل
الجنة لا الجسم ، فما معنى قوله تعالى في سورة الزخرف { وَفِيهَا
مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } ، أليست "العين" أحد
أعضاء الجسم ؟
الجواب : إنّ الله تعالى لم يعنِ بكلمة (أَعْيُن) عيني الإنسان ، بل عنى بذلك الغدد أو العيون التي في الفم والتي تفرز
السوائل ، فهي أساس التذوّق والتلذّذ ، وليس التذوّق والتلذّذ بالطعام هو بالعيون
بل بالعيون التي في الفم .
Man after Death An Hour with Ghosts The Universe and the Quran The Conflict between the Torah and the Quran الخلاف بين التوراة و
القرآن الكون والقرآن المتشابه من القرآن ساعة قضيتها مع الأرواح