تفسير سورة البقرة
(الم ) إنّ الحروف التي في أوائل السور كلّ حرفٍ منها يرمز إلى كلمة ، والحرف يكون في أوّل الكلمة ، فالألف معناه إقرأ ، والخطاب للنبيّ (ع ) ، وهذه أوّل سورة نزلت على النبيّ : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} . واللام معناه لَهم أي للناس ، والميم يرمز إلى إسم محمّد ، فيكون المعنى : إقرأ للناس يا محمّد ، أو إقرأ لَهم يا محمّد ، والمعنى واحد .
(ذَلِكَ الْكِتَابُ ) ويريد بالكتاب ما نزل من السوَر والآيات قبل سورة البقرة وكتبها أصحاب النبيّ عندهم ، وهي سورة القلم والمزمّل والمدثّر وغيرها ، لأنّ الكلام الذي لا يُكتب في القرطاس وغيره لا يسمّى كتاباً ، وإنّ جبرائيل (ع ) لم ينزل بكتاب من السماء ، بل نزل بسور وآيات كان يتلوها على محمّد ، ولَمّا كتبها أصحابه وحفظوها عندهم حينئذٍ جاز تسميتها بالكتاب ، فلفظة ذلك وتلك تشير إلى ما كتبوه من السور والآيات قبل نزول هذه السورة ، كقوله تعالى في سورة يونس {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}.
17 – (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً) أي مثَل هؤلاء المنافقين كمثَل أصحاب الذي استوقد ناراً ، يعني طلب إيقاد النار ، وهو موسى بن عمران . قال الله تعالى في سورة القصص {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } .
والمعنى : مثَل هؤلاء النافقين وفعلهم معك يا محمّد كمثَل المنافقين من قوم موسى وفعلهم معه ، ومِمّا يؤيّد ذلك قوله تعالى في سورة الأحزاب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا} .
(فَلَمَّا أَضَاءتْ ) يعني فلمّا أضاءت الشجرة التي كلّم الله تعالى منها موسى وهي شجرة الزيتون ، أضاءت بالعلم والهداية (مَا حَوْلَهُ ) يعني أضاءت على موسى ومن حوله وهم بنو إسرائيل بأن أنقذهم من يد فرعون وخلّصهم من عذابه ، وفعلاً كانت الشجرة تضيء بالنور ولذلك ظنّها موسى ناراً . فكفر بنو إسرائيل بعد ذلك وفسقوا وخيّم الجهل عليهم فقالوا أرِنا الله جهرةً فأخذَتهم الصاعقة وصارت ظلمة ، وهذا معنى قوله تعالى (ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ ) أي بنور الهداية من فاسقي بني إسرائيل (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ) الجهل (لاَّ يُبْصِرُونَ ) الحقّ .
19 – (أَوْ ) مثَلهم (كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء ) أي كأصحاب الصيّب ، وهو السحاب الكثير الصوب ، والصوب هو المطر الشديد ، ومن ذلك قول الحسين (ع ) : "بين أناسٍ لا سُقوا صوب المزن" . والمعنى : أو مثَلهم كمثَل قومٍ أخذَتهم السماء بالسحاب والمطر والظلمة والبرق والرعد ليخوّفهم الله بالصواعق ويردعهم كي يرجعوا عن غيّهم ويتركوا طلبتهم التي ساروا خلفها يطلبونها ولكنّهم لم يرتدعوا بتلك الحوادث ولم يرجعوا عن غيّهم بل أخذوا يسيرون عند إنارة البرق ويقيمون عند الظلمة لأنّ سفرهم كان بالليل ، وذلك قوله تعالى [ في الآية التالية] : {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} وهم قوم فرعون ساروا في طلب موسى وقومه وكان مسيرهم ليلاً ، فردعهم الله تعالى بالمطر والرعد والبرق والصواعق فلم يرتدعوا بل ساروا في طلبهم حتّى أدركوهم صباحاً فأغرقهم الله في البحر وأهلكهم جزاءً لعنادهم ، فكذلك المنافقون من قومك يا محمّد إن لم يرجعوا عن غيّهم ويصلحوا أعمالهم فإنّ الله يهلكهم كما أهلك فرعون وقومه ، وذلك قوله (فِيهِ) أي في ذلك الصيّب يعني السحاب (ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم ) الضمير يعود لأصحاب الصيّب وهم قوم فرعون (مِّنَ الصَّوَاعِقِ) أي من شدّة الصواعق وأصوات الرعد (حَذَرَ الْمَوْتِ) أي خوفاً من أن يموتوا (واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) يعني لا يفوتونه مهما لزموا الحذر .
وإليك بعض آراء المفسّرين حول هذه الآية كي تقارن بين تفسيري وتفسيرهم .
آراء المفسّرين
عن كتاب مجمع البيان للشيخ الطبرسي المجلّد الأوّل صفحة 56 قال :
"مثَل هؤلاء المنافقين في جهلهم وشدّة عنادهم (كَصَيِّبٍ ) أي كأصحاب مطر (مِّنَ السَّمَاء) أي منزل من السماء (فِيهِ ) أي في هذا المطر أو السماء لأنّ المراد بالسماء السحاب فهو مذكّر (ظُلُمَاتٌ ) لأنّ السحاب يغشى الشمس بالنهار والنجوم بالليل فيظلم (وَرَعْدٌ ) وقيل إنّ الرعد صوت ملّك يزجر السحاب وقيل الرعد هو ملّك موكّل بالسحاب يسبّح ، روِي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وهو المروي عن أئمّتنا عليهم السلام ، وقيل هو ريح تختنق تحت السماء رواه أبو الجلد عن ابن عباس ، وقيل هو صوت اصطكاك أجرام السحاب ، ومن قال أنّه ملَك قدّر فيه صوتاً كأنّه قال فيه ظلمات وصوت رعد لأنّه روي أنّه يزعق كما يزعق الراعي بغنمه ، وقوله (وَبَرْقٌ ) قيل أنّه مخاريق الملائكة من حديد تضرب به السحاب فتنقدح عنه النار عن علي (ع ) ، وقيل أنّه سوط من نور يزجر به الملَك السحاب عن ابن عباس ، وقيل هو مصع ملَك عن مجاهد والمصاع المجالَدة بالسيوف وغيرها ، وقيل أنّه نار تنقدح من اصطكاك الأجرام ، وفي تأويل الآية وتشبيه المثَل أقوال أحدها أنّه شبّه المطر المنزل من السماء بالقرآن وما فيه من الظلمات بما في القرآن من الابتلاء وبما فيه من الرعد بما في القرآن من الزجر وما فيه من البرق بما فيه من البيان وما فيه من الصواعق بما في القرآن من الوعيد آجلاً والدعاء إلى الجهاد عاجلاً عن ابن عباس ، وثانيها أنّه مثل للدنيا شبّه ما فيها من الشدّة والرخاء بالصيّب الذي يجمع نفعاً وضرراً وأنّ المنافق يدفع عاجل الضرر ولا يطلب آجل النفع ، وثالثها أنّه مثل الإسلام لأنّ فيه الحياة وشبّه ما فيه من الظلمات بما في أسلافهم من إبطان الكفر وما فيه من الرعد بما في الإسلام من فرض الجهاد وخوف القتل ولِما يخافونه من وعيد الآخرة لشكّهم في دينهم وما فيه من البرق بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم ومناكحتهم وموارثتهم ، وما فيه من الصواعق بما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل .
ورابعها ما روِي عن ابن مسعود وجماعته من الصحابة أنّ رجلين من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله (ص) فأصابهما المطر الذي ذكره الله تعالى فيه رعد شديد وصواعق وبرق وكلما أضاء لهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما مخافة أن تدخل الصواعق في آذانهما فتقتلهما وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه وإذا لم يلمع لم يبصرا فأقاما فجعلا يقولان يا ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمداً فنضع أيدينا في يديه فأصبحا فأتياه فأسلما وحسن إسلامهما فضرب الله شأن هذين الرجلين مثلاً لمنافقي المدينة وأنهم إذا حضروا النبي جعلوا أصابعهم في آذانهم فَرَقاً من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء كما كان ذلك الرجلان يجعلان أصابعهما في آذانهما وكلما أضاء لهم مشوا فيه يعني إذا كثرت أموالهم وأصابوا غنيمة أو فتحاً مشوا فيه وقالوا دين محمد صحيح وإذا أظلم عليهم قاموا يعني إذا هلكت أموالهم وأصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمد فارتدوا كما قام ذانك الرجلان إذا أظلم البرق عليهما وقولـه: { والله محيط بالكافرين } يحتمل وجوهاً: أحدها: أنه عالم بهم فيعلم سرائرهم ويطلع نبيّه على ضمائرهم عن الأصم وثانيها: أنه قادر عليهم لا يستطيعون الخروج عن قدرته قال الشاعر:
أَحَطْنَا بِهِمْ حتَّى إِذَا مَا تَيَقَّنُوا بِما قَدْ رَأوا مَالُوا جَميعاً إلى السِّلْمِ
أي قدرنا عليهم وثالثها: ما روي عن مجاهد أنه جامعهم يوم القيامة يقال أحاط بكذا إذا لم يشذّ منه شيء ومنه أحاط بكل شيء علماً أي لم يشذ عن علمه شيء ورابعها: أنه مهلكهم يقال أحيط بفلان فهو محاط به إذا دنا هلاكه قال سبحانه { وأحيط بثمره } [الكهف: 42] أي أصابه ما أهلكه وقولـه: { إلاّ أن يحاط بكم } معناه أن تهلكوا جميعاً." انتهى .
أقول لو صحّ ما روِي عن ابن مسعود في أمر الرجلين وأنّ الله تعالى ضرب بِهما مثَلاً لَجاء سياق الآية والكلام على التثنية ، ولم يأتِ على الجمع فكيف وقد قال الله تعالى {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم} وقال أيضاً {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} ، وهم قوم فرعون ساروا ليلاً في طلب موسى وقومه حتّى أدركوهم صباحاً .
23 – (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ) أي في شكّ ، والخطاب للمشركين (مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) محمّد (فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ) يعني من مثل القرآن فصاحة وبلاغة (وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم) جمع شهيد وهو الجليس الذي تراه وتجالسه ، والمعنى : وادعوا أصنامكم التي تجلسون عندها وتنظرون إليها ، ومن كانت هذه صفته فليس بإله ؛ فإنّ الله تعالى لا تجالسه البشر ولا تراه العيون ، وقوله (مِّن دُونِ اللّهِ) أي التي اتّخذتموها بدلاً عن الله مع كونِها حقيرة، والتقدير : وادعوا شهداءكم من دون الله فليستجيبوا لكم (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في دعواكم بأنّ الأصنام آلهة تدعونَها فتستجيب .
24 – (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ) يعني فإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم عن ذلك ولن يستجيب لكم شهداؤكم عند دعائكم لهم ، إذاً (فَاتَّقُواْ النَّارَ) بإيمانكم ، أي صدّقوا محمّداً كي تتّقوا النار ولا تتعذّبوا فيها تلك (الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ) يعني تكون الناس لَها مقام الحطب (وَالْحِجَارَةُ) هي نار البراكين والأحجار المبيضة من شدة الحرارة التي تقذف بِها البراكين من جوف الأرض ، وقد سبق تفسيرها في كتابنا (الكون والقرآن) ، (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) أي هيّئت لهم .
آراء المفسّرين
لقد اختلف المفسّرون في كلمة { شُهَدَاءكُم} فظنّوها جمع شاهد ، ولذلك لم يفهموا معنى الآية وإليك أقوالهم عن [مجمع البيان] صفحة 62: " { وادعوا شهداءكم } قال ابن عباس يعني أعوانكم وأنصاركم الذين يظاهرونكم على تكذيبكم وسمى أعوانهم شهداء لأنهم يشاهدونهم عند المعاونة والشهيد يكون بمعنى المشاهد كالجليس والأكيل ويسمى الشاهد على الشيء لغيره بما يحقق دعواه بأنه شهيد أيضاً وقولـه: { من دون الله } أي من غير الله كما يقال ما دون الله مخلوق يريد وادعوا من اتخذتموهم معاونين من غير الله: { إن كنتم صادقين } في أن هذا الكتاب يقولـه محمد من نفسه. وقال الفراء: أراد وادعوا آلهتكم وقال مجاهد وابن جريج: أراد قوماً يشهدون لكم بذلك ممن يقبل قولـهم وقول ابن عباس أقوى لأن معناه استنصروا أعوانكم على أن يأتوا بمثله لأن الدعاء بمعنى الإستعانة كما قال الشاعر:
فَلَمَّا الْتَقَتْ فرْسانُنا وَرِجالُنَا دَعَوْا يا لَكَعْبٍ واعْتَزَيْنَا لِعامِرِ
وقال آخر:
وَقَبْلَكَ رُبَّ خَصْمٍ قَدْ تَمالُوا عَلَيَّ فَما جَزَعْتُ وَلاَ دَعَوْتُ
وأما قول مجاهد فلا وجه له لأن الشاهدين لا يخلو إما أن يكونوا مؤمنين أو كفاراً
فالمؤمنون لا يكونون شهداء للكفار والكفار لا بّد أن يسارعوا إلى إبطال الحق أو
تحقيق الباطل إذا دعوا إليه فمن أي الفريقين يكون شهداؤهم ولكن ينبغي أن يجري ذلك
مجرى قولـه تعالى:
{ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان
بعضهم لبعض ظهيراً }
[الإِسراء: 88] وقال قوم إن هذا الوجه جائز أيضاً صحته لأن العقلاء لا يجوز أن
يُحملوا نفوسهم على الشهادة بما يفتضحون به في كلام أنه مثل القرآن ولا يكون مثله
كما لا يجوز أن يُحملوا نفوسهم على أن يعارضوا ما ليس بمعارض على الحقيقة." انتهى .
25 – (وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ ) سبق تفسيرها في كتابنا (الإنسان بعد الموت) .
26 - (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا) يعني مثلاً من الأمثال من صغير الحشرات إلى كبار الحيوانات ، وذلك قوله تعالى (بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) أي فما تجاوزها وزاد عليها ، لأنّ الله تعالى لَمّا ضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت تكلّم فيه قوم من المشركين وعابوا ذكره وقالوا ماذا أراد الله بالعنكبوت فيضرب به مثلاً ، وما هذه الأمثال إلاّ من محمّد ؛ فأنزل الله هذه الآية ، ومعنى {لاَ يَسْتَحْيِي} يعني لا يرى في ذلك من حياء ، أي لا يرى من عيب في ضرب الأمثال بالحشرات لأنّه هو الذي خلقها وهو أعلم بضعفها وقوّتِها وطباعها ولا فرق بينكم وبينها في الخلقة فهي مخلوقاته وأنتم عبيده . والبعوض صغار البقّ وإنّما لم يقل بعوضةً فما أكبر منها ، لأنّ ذلك يدلّ على الكبر فقط ، وأراد سبحانه بلفظة {فَمَا فَوْقَهَا} الغريزة والقوّة والكبر ، (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ) أي القرآن منزل من ربّهم وليست هذه الأمثال من محمّد (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا) أي بالحشرات فيضرب بِها (مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) لأنّ الناس على قسمين صالح وفاسق : فالصالح من كانت أخلاقه حسنة صادق القول كريم النفس رحيم القلب رؤوف بالمساكين لا يتكبّر على الضعفاء ، وأمّا الفاسق فهو عكس ذلك كاذب في قوله متكبّر في نفسه ظالم جائر نمّام بخيل ، فإن لم تكن هذه الصفات كلّها فيه فبعضها . فالصالحون يتّبعون المحكم من القرآن فيهتدون به ويتركون حكم المتشابه إلى الله . أمّا الفاسقون فيتركون المحكم ويعترضون على المتشابه فيضلّون به ، وذلك قوله تعالى {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} يعني كثيرٌ من الناس يضلّون عن الحقّ باتباعهم المتشابه من القرآن ، وكثيرٌ من الناس يهتدون باتباعهم المحكم من القرآن دون الالتفات إلى المتشابه (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ) يعني إلاّ من كان سيّء الأخلاق . ثمّ أخذ سبحانه في ذمّ الفاسقين فقال :
27 – (الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ) يعني ينقضون العهد الذي عاهدوا به أنبياء الله الماضين بان لا يشركوا بالله شيئاً ولا يقتلوا النفس التي حرّم الله قتلها ولا يزنوا ، وقد أخلفوا الله ما عاهدوه (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ) يعني ويقطعون صلة الرحم التي أمر الله بصلتها (وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ) بالفتن وقطع السبيل ويصدّون من آمَن بمحمّد (أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) الذين خسروا أنفسهم وأهليهم فأبدلوا النعيم بالجحيم .
28 – (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ) إنّ هذه الآية لَها معنيان أحدهما يدلّ على خلق آدم والثاني يدلّ على خلق نسله ، أمّا خلق آدم فقد شرحتها شرحاً وافياً في كتابي (الكون والقرآن) تحت عنوان (الحياة انتقالية) ، أمّا خلق نسله فخلقهم من عناصر أرضية فكان منها الغذاء وكان من الغذاء المني وكان من المني الجنين ، فقوله تعالى {كُنتُمْ أَمْوَاتاً} يعني كنتم جماداً فجعلكم أحياء تسمعون وتبصرون . ويؤيّد ذلك قوله تعالى في سورة ياسين {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} . فجسم الإنسان يتكوّن من مواد أرضية وذلك من مركّبات الكبريت والفسفور والصوديوم والبوتاسيوم والكلس والحديد ، فالأشجار تمتصّ هذه المواد من الأرض فتصبح فيها فاكهة فإذا أكلها الإنسان أخذ جسمه ينمو ويكبر بِهذه الأغذية ( ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انتهاء أعماركم ( ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) الحياة الأثيرية ، وذلك بعد الموت في عالم الأثير (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم القيامة ، أي يرجع حكمكم إليه فيحكم بينكم بالعدل .
29 – (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) من جبال وأنهار ونبات وأنعام ، وقد سبق تفسير هذه الآية في كتابنا (الكون والقرآن)في تعريف السماوات الغازية :
http://www.quran-ayat.com/kown/index.htm#السماوات_الغازيّة_
30 – (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) يخلف مَن مضى قبله من الأمم (قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء) كما فسدت الأمم الماضية 1 ، (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) ألا تكتفي بنا عبيداً (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) أي أنا أعلم أنّ أولاد آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ولكن لي منهم نخبة وفيهم الكفاية فهؤلاء يعبدونني ولا يشركون بي شيئاً ، ويريد بذلك الأنبياء والهداة . وقد سبق شرح هذه الآية في كتابنا (الكون والقرآن) .
-------------------------------------------
1[بينما المفسّرون السابقون يخالون أنّه تعالى جعل آدم خليفة لله , ويا عجباً كيف ظنّوا ذلك والخليفة يفسد في الأرض ويسفك الدماء ! والمؤلّف هو أوّل من أوضح الخلافة هذه وبيّن كون أبينا آدم هذا آخر أب للجنس الرابع . – المراجع]
31- (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) أي أسماء الأنبياء والهداة (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ) أي عرض كنيتهم على الملائكة ، فقال تعالى : أتعرفون خليلي منهم ؟ قالوا : لا ، قال : أتعرفون كليمي منهم ؟ قالوا : لا ، فقال : أتعرفون روحي منهم ؟ قالوا : لا ، فقال : أتعرفون حبيبي منهم ؟ قالوا : لا ، فقال : أتعرفون أمري منهم ؟ قالوا : لا نعرف ، (فَقَالَ) الله تعالى للملائكة (أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء) الدعاة إلى الله (إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) بأنّكم تعلمون أنّ أولاد آدم يفسدون في الأرض .
32 – (قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا) أي تنزيهاً لك عن الخطأ فإنّك لا تخلق الخلق إلاّ لمصلحة فإنّنا لا علم لنا بالغيب إلاّ ما أنبأتنا عنه (إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ) بِما غاب عنّا (الْحَكِيمُ) في مخلوقاتك لا تخلق شيئاً عبثاً .
33- (قَالَ) الله تعالى (يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ) أي علّمْهم بأسماء هؤلاء الدعاة إلى الله الذين يأتون من نسلك ، فقال آدم للملائكة : إسم خليله إبراهيم ، واسم كليمه موسى ، واسم روحه عيسى ، واسم حبيبه محمّد ، واسم أمره محمّد أيضاً : المهدي صاحب الزمان ، وهكذا أعلمهم آدم أسماء الدعاة إلى الله : من ذكرنا ومن لم نذكر ، (فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ) الله تعالى للملائكة (أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) أي أعلم ما غاب عنكم في السماوات وفي الأرض (وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ) أي ما تظهرون (وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) أي وما تخفون في ضمائركم .
آراء المفسّرين
في قوله تعالى {وَعَلَّمَ
آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا}قال الطبرسي في صفحة 76 : "أي
علمه معاني الأسماء إِذ الأسماء بلا معان لا فائدة فيها ولا وجه لإشارة الفضيلة بها
وقد نبه الله تعالى الملائكة على ما فيها من لطيف الحكمة فأقروا عندما سئلوا عن
ذكرها والإخبار عنها أنه لا علم لهم بها فقال الله تعالى { يا آدم أنْبِئهم
بأسمائهم } عن قتادة وقيل إنه سبحانه علمه جميع الأسماء والصناعات وعمارة الأرضين
والأطعمة والأدوية واستخراج المعادن وغرس الأشجار ومنافعها وجميع ما يتعلق بعمارة
الدين والدنيا عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير, وعن أكثر المتأخرين.
وقيل إنه علمه أسماء الأشياء كلها ما خلق وما لم يخلق بجميع اللغات التي يتكلم بها
ولده بعده عن أبي علي الجبائي وعلي بن عيسى وغيرهما قالوا فأخذ عنه ولده اللغات
فلما تفرقوا تكلم كل قوم بلسان ألفوه واعتادوه وتطاول الزمان على ما خالف ذلك فنسوه
ويجوز أن يكونوا عالمين بجميع تلك اللغات إلى زمن نوح (ع) فلما أهلك الله الناس إلا
نوحاً ومن تبعه كانوا هم العارفين بتلك اللغات فلما كثروا وتفرقوا اختار كل قوم
منهم لغة تكلموا بها وتركوا ما سواه ونسوه.
وقد روي عن الصادق (ع) أنه سئل عن هذه الآية فقال: الأرضين والجبال والشعاب
والأودية ثم نظر إلى بساط تحته فقال وهذا البساط مما علمه وقيل إنه علمه أسماء
الملائكة وأسماء ذريته عن الربيع, وقيل إنه علمه ألقاب الأشياء ومعانيها وخواصها
وهو أن الفرس يصلح لماذا والحمار يصلح لماذا وهذا أبلغ لأن معاني الأشياء وخواصها
لا تتغير بتغير الأزمنة والأوقات وألقاب الأشياء تتغير على طول الأزمنة."
وقالوا في تفسير قوله تعالى {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ} صفحة 77 قال :
" واختلف في كيفية العرض على الملائكة فقيل إنما عرضها على الملائكة بأن خلق معاني الأسماء التي علّمها آدم حتى شاهدتها الملائكة وقيل صوّر في قلوبهم هذه الأشياء فصارت كأنهم شاهدوها وقيل عرض عليهم من كل جنس واحد وأراد بذلك تعجيزهم ..الخ ".
أقول إنّ الله تعالى لم يقل : علّمنا آدم اللغات والصناعات واستخراج المعادن وغير ذلك مِمّا ذكر المفسّرون ولا قدرة للإنسان أن يتعلّم جميع اللغات والصناعات ولو أنّه قضّى حياته في المدارس والكلّيات وكيف يتعلّم جميع اللغات والإنسان شديد النسيان وقد قال الله تعالى في سورة طا ها {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} ، وقد خاطب الله حبيبه خاتم الأنبياء بقوله في سورة الأعلى {سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى . إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ} ، وقال أيضاً في سورة الأنعام {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، ثمّ لو كان المراد بذلك أسماء الأشياء لقال تعالى : ثمّ عرضها على الملائكة ، فكيف وقد قال تعالى {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} يعني عرض هؤلاء الأشخاص على الملائكة ، يعني كنيتهم ، فقال تعالى {أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ولم يقل أنبؤوني بأسماء الجبال والأودية والشعاب إن كنتم صادقين . ثانياً إنّ كلمة {هَـؤُلاء} تشير إلى أشخاص ولا يجوز استعمالها للجمادات ، فلو صحّ ما ذهب إليه المفسّرون لقال تعالى : أنبؤوني بأسماء تلك الأشياء إن كنتم صادقين ، ولم يقل {بِأَسْمَاء هَـؤُلاء} .
ثمّ إنّ مدار الحديث واعتراض الملائكة كان حول نسل آدم فكان الجواب من الله تعالى حول نفس الموضوع ، وذلك قوله تعالى {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} يعني أنا أعلم ما سيكون من نسل آدم من رجال هداة تقاة صالحين لا يفسدون ولا يسفكون بل يصلحون ويعبدون وإن كان الكثير من نسله يفسدون ويسفكون .
35 – (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) البستان تسمّى بلسان العرب جنّة ، والشاهد على ذلك قول شاعرهم:
كانتْ لَهمْ جنّةٌ إذْ ذاكَ ظاهرةٌ فيها الفراديسُ والفُومانُ وَالبَصَلُ
فإنّ الله تعالى خلق آدم وحوّاء على جبل من جبال الأرض ، وكان فيه كثير من الأشجار والفواكه وفيه ينابيع المياه ويكتنف أصناف الطيور والأنعام ، ولذلك قال الله تعالى (وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا) أي وكلا من ثمار الجنة وطيورها وأنعامها واشربوا من ألبانِها ، ومن ذلك قول امرئ القيس :
بَيْنَمَا المَرْءُ تَراهُ نَاعِمــاً يَأْمَنُ الأَحْدَاثَ في عَيْشٍ رَغَدْ
(وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ) لأنّ فيها شوكاً يمزّق ثيابَهما ويخدش أيديهما عند تناولِهما من ثمرتِها ولذلك منعهما من التقرّب إليها 1 وهي شجرة العلّيق "علگة" (فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ) لأنفسكما بتناولكما من ثمرتِها .
وذلك الجبل هو قطعة من كوكب كان مسكوناً في قديم الزمان وكان فيه من البشر والحيوان والنبات وغير ذلك من الأحياء ، فلمّا قامت قيامته تمزّق فصارت نيازك سقط بعضها على أرضنا فصارت جبالاً ، ولَمّا سقطت عليها الأمطار وكان في تلك الجبال بذور الأشجار والنباتات أخذت تنبت وتنمو وأصبحت بساتين فوق تلك الجبال ، قال الله تعالى في سورة الرعد (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ) ، والمعنى (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ) ليست من الأرض 2 سقطت عليها فصارت جبال (مُّتَجَاوِرَاتٌ) جاور بعضها بعضاً (وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ) أي بساتين من أعناب ، يعني من فواكه . ولَمّا نمت النباتات والأشجار على تلك الجبال خلق الله تعالى عليها طيوراً وأنعاماً وخلق آدم وحوّاء فوق جبل من تلك الجبال .
----------------------------------------------
1[والمؤلّف أوّل من فرّق بين تحريم الاقتراب منها وبين الأكل منها كما زعم أكثر المفسّرين ، ولو كانت الشجرة محرّم أكلها لَضلّ ذلك حتّى اليوم ، فالبرّ والتفّاح من أعمدة الحياة وضرورات الغذاء ، والتفّاح من أهمّ الفواكه وأكثرها احتواءً على الحديد ، فلا يعقل تحريمهما ، لكن شجرة العلّيق مِمّا يحذر الاقتراب منها حتّى هذا الزمن – المراجع ]
2[قال المراجع : أثبت علم الجيولوجيا أنّ جبال همالايا ليست من أرضنا , بل أنّها رست عليها بعد أن كانت تدور حول الأرض . ]
36 – (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا) أي فأذهبهما الشيطان عن تلك الجنة وأبعدهما بوسوسته وإغوائه (فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) من النعم لأنّهما أكلا من تلك الشجرة وهو توت العلّيق (وَ) عصيا ربّهما (قُلْنَا اهْبِطُواْ ) من الجبل إلى الأرض المستوية ، يعني آدم وحوّاء والأنعام والطيور التي كانت في تلك الجنة كلّهم نزلوا إلى الأرض (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) يعني جعلنا بينكم عداوة جزاءً لِعصيانكم أمر ربّكم ، فصار إبليس عدوّاً لآدم وأولاده ، وصار آدم عدوّاً لإبليس ، فصار أولاد آدم بعضهم يعادي بعضاً (وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أي راحة وسكون (وَمَتَاعٌ) من المأكل والملبس والأثاث وكلّ شيء يتمتّع به الإنسان (إِلَى حِينٍ) أي إلى يوم القيامة ، لأنّ الأرض تتمزّق في ذلك اليوم فتخرج النفوس منها وتنتشر في الفضاء .
القصّة : لَمّا أكل آدم من تلك الشجرة أخذت الينابيع تجفّ لأنّها شقّت طريقاً من أسفل الجبل وصارت تجري على الأرض ، ولَمّا جفّت المياه فوق الجبل يبست الأشجار ونفدت الثمار فلم يبقَ في تلك البستان ما يعيشون عليه فشكَوا إلى ربّهم فأوحى إليهم أن اهبطوا إلى الأرض المستوية ، فقالا ربّنا نخاف أن لا نجد عليها ما نأكل ونشرب ، فأخذ سبحانه يحثّهم على النزول فقال تجدون فيها ما تأكلون وتشربون ولكم في الأرض مستقرٌّ ومتاعٌ إلى حين . وأراد سبحانه أن يفرّقهم في الأرض كي ينتشروا فيها ويتكاثروا .
37 – (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ) نزل بِها جبرائيل فعلّمه إيّاها فدعا بِها آدم وهي : "اللهمّ لا إلاه إلاّ أنت سبحانك وبحمدك ربِّ إنّي ظلمتُ نفسي فاغفر لي إنّك خير الغافرين ، اللهمّ لا إلاه إلاّ أنت سبحانك وبحمدك ربِّ إنّي ظلمتُ نفسي فارحمني إنّك أنت أرحم الراحمين ، اللهمّ لا إلاه إلاّ أنت سبحانك وبحمدك ربِّ إنّي ظلمتُ نفسي فتبْ عليّ إنّك أنت التوّاب الرحيم ." (فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) لِمن عمل سيّئة بجهالة ثمّ تاب في مدّة قريبة (الرَّحِيمُ ) بعباده التائبين النادمين .
آراء المفسّرين
في الجنة : صفحة (85 ) قال الطبرسي : "اختلف في الجنة التي أسكن فيها آدم فقال أبو هاشم هي جنة من جنان السماء غير جنة الخلد لأن جنة الخلد أكُلها دائم ولا تكليف فيها وقال أبو مسلم هي جنة من جنان الدنيا في الأرض" "{ ولا تقربا هذه الشجرة } أي لا تأكلا منها فمعناه لا تقرباها بالأكل ويدل عليه أن المخالفة وقعت بالأكل بلا خلاف لا بالدنو منها." "واختلف في الشجرة التي نهي عنها آدم فقيل هي السنبلة عن ابن عباس وقيل هي الكرمة عن ابن مسعود والسدّي وقيل هي التينة عن ابن جرير وقيل هي شجرة الكافور. وقيل هي شجرة العلم علم الخير والشر عن الكلبي وقيل هي شجرة الخلد التي كانت تأكل منها الملائكة عن ابن جذعان." وقيل هي شجرة التفّاح .
أقول : إنّ نبتة الحنطة لا تسمّى شجرة ، وأمّا التين والعنب والتفّاح فهي من الفواكه الطيّبة المباح أكلها ، وأمّا علم الخير والشرّ فليس له أشجار ، وأمّا الكافور فلا يُؤكل .
40 – ثمّ أخذ سبحانه في خطاب بني إسرائيل فقال : (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ) في الماضي ، أراد بذلك النعم التي أنعم بِها على أسلافهم من كثرة الأنبياء فيهم والكتب ونجاتِهم من فرعون ومن الغرق وإنزال المنّ والسلوى عليهم وكون الملك فيهم في زمن داود وسليمان وغير ذلك (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي) أي بما عاهدتموني عليه من الإيمان والطاعة بي وأن لا تشركوا بي شيئاً وكان العهد على يد موسى نبيّكم (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) أي بِما عاهدتكم عليه من حسن الثواب على حسناتكم (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي خافوني في نقض العهد . 1
وإليك بعض العهود التي عاهدوا الله عليها ، فقد جاء في التثنية من التوراة في الإصحاح الخامس قال :
"وَدَعَا مُوسَى جَمِيعَ إِسْرَائِيل وَقَال لهُمْ: اَلرَّبُّ إِلهُنَا قَطَعَ مَعَنَا عَهْداً فِي حُورِيبَ . فَقَال: لا يَكُنْ لكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي . لا تَصْنَعْ لكَ تِمْثَالاً مَنْحُوتاً صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ أَسْفَلُ وَمَا فِي المَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ . لا تَسْجُدْ لهُنَّ وَلا تَعْبُدْهُنَّ لأَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلهٌ غَيُورٌ "
هذه بعض العهود التي أخذها عليهم ولكنّهم خانوا العهود ونقضوا المواثيق وعبدوا البعليم و عشتاروث وغير ذلك .
------------------------------------------------
1 [وقد أكثر موسى (ع ) من تذكير قومه بلزوم قصر عبادتهم بالله تعالى وأكّد ذلك غير مرّة ، ومنها الفصل 30 من التثنية حتّى النفَس الأخير وهو يردّد "وقد أشهدتُ عليكم اليوم السماء والأرض" 15-20 – المراجع ]
42 – (وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ) أي لا تخلطوا الحقّ بالباطل ، والحقّ يريد به التوراة ، والباطل كلامهم ، ويريد بذلك ما حرّفوه وبدّلوه من التوراة (وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ ) أي تكتموا صفة محمّد التي جاء ذكرها في التوراة والإنجيل (وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) أنّ وراءكم حساب وعقاب ، والخطاب موجّه إلى علمائهم .
45 – (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ) الآية معطوفة على قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ..الخ ) من آية 21 والخطاب لقريش ، وذلك لَمّا قال النبي (ع ) : آمِنوا ، فقال بعضهم إذا آمنّا فإنّ قومنا يؤذوننا ويأخذون أموالنا 1 ، وذلك قوله تعالى في سورة القصص {وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ) يعني آمِنوا واستعينوا على قومكم بالصبر وإنّ الله ينصركم عليهم ، وقوله (وَالصَّلاَةِ ) يعني واستعينوا عليهم أيضاً بالصلاة والدعاء إلى الله وهو ينجيكم منهم وينصركم عليهم (وَإِنَّهَا ) أي الصلاة (لَكَبِيرَةٌ ) أي لثقيلة على الناس فلا يواظبون عليها وخاصّةً المتكبّرون منهم (إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ) أي المتواضعين لا تثقل عليهم لأنّهم وطّنوا أنفسهم على أدائها وإنّهم لا يأنفون من الركوع والسجود .
-----------------------------------------------
1 [ومِمّا يؤسف له أنّ بين ظهرانينا من الأحبار والرهبان من يعلم الحقّ الصريح ويبتعد لمثل الأسباب التي ذكرها المؤلّف الفاضل عن هداية قومه إلى الدين الصحيح . – المراجع ]
46 – ثمّ أخذ سبحانه في وصف الخاشعين فقال (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ ) يعني ما يلاقونه من الرحمة مجازاةً لأعمالِهم ،كقوله في سورة الحاقة {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ . فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} ، (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) أي يرجع أمرهم إليه فهو يتولّى أمرهم وشؤونهم .
50 – (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) يعني وعده بأن يعطيه التوراة ، والتقدير : واذكروا إذ واعدنا موسى بأن نعطيه التوراة فأعطيناه إيّاها بعد أربعين ليلة ، لأنّ الله تعالى وعده ثلاثين ليلة ثمّ اقتضت المصلحة الإلاهية بأن يضيف لَها عشرة أخرى فصارت أربعين ليلة ، وذلك قوله تعالى في سورة الأعراف {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ؛ فإنّ الله تعالى ذكر الأربعين في هذه السورة مجملاً وفي سورة الأعراف مفصّلاً (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ ) إلاهاً تعبدونه (مِن بَعْدِهِ ) أي من بعد ذهاب موسى إلى جبل الطور في وادي سيناء (وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ) لأنفسكم بِما استحققتم من العقاب على ذلك .
والتوراة هي عشر كلمات ، أي عشر وصايا كتبها الله تعالى بقلم قدرته في لوحين من حجر ذلك الجبل ، والكتابة في وجهيهما ، وهي كما يلي :
لا يكن لك آلهة أخرى أمامي .
لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً . لا تسجد لهنّ ولا تعبدهنّ لأنّي أنا الربّ إلاه غيور .
لا تنطق باسم الربّ إلاهك باطلاً .
إحفظ يوم السبت .
أكرم أباك وأمّك .
لا تقتل .
ولا تزنِ .
ولا تسرق .
ولا تشهد شهادة زور .
ولا تشته امرأة قريبك ولا حقله ولا عبده ولا أمَته ولا ثورَه ولا حمارَه ولا كلّ ما لقريبك .
53 – (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) يعني التوراة التي كتبها على ألواح الحجر (وَالْفُرْقَانَ) يعني الوصايا والأحكام الدينية التي جاءت متفرّقة وكتبها قوم موسى في الرقوق ، يعني في جلد الغزال (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إلى طريق الحقّ .
54 – (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ) الذين عبدوا العجل (يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ ) أي أضررتم أنفسكم وعرّضتموها للعقاب (بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ) معبوداً (فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ ) يعني إلى مخلّصكم ومسلّمكم من يد فرعون، وذلك من قولهم برئ فلان من مرضه ، أي تخلّص ونجا ، وتبرّأ فلان من دعوته أي تخلّص منها ، وبرئ القلم ، أي أنهاه من كثرة البري (فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ) أي ليقتل بعضكم بعضاً ، يعني الذين لم يعبدوا العجل يقتلون من عبدوه ، فقتل في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل 1 ، (ذَلِكُمْ ) إشارة إلى التوبة والقتل لأنفسهم (خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ ) من أن تمتنعوا عن ذلك ، لأنّ في امتثالكم لأوامر ربّكم غفران ذنوبكم ، وفي امتناعكم عن ذلك عقاب لكم (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) أي ومن فضله عليكم أن قبِل توبتكم واكتفى بقتلكم ولم يترك عقابكم إلى الآخرة فتهلكوا في جهنّم (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ ) عن التائبين (الرَّحِيمُ) بِهم .
------------------------------------------------------------------
1 [راجع سفر الخروج من التوراة الاصحاح 32 عدد 29 - المراجع ]
55 – (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ ) أي لن نصدّقك بأنّ الله يكلّمك ويوصيك بِهذه الوصايا (حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) أي علانية (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) وهي نار تنزل من السماء (وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) النار والحادث الذي أصابكم . وهم سبعون رجلاً صعدوا فوق الجبل مع موسى ، فقال موسى ربِّ أرني أنظر إليك . قال الله تعالى لن تراني . فنزلت صاعقة من السماء عليهم فغشي على موسى ومات من كان معه فوق الجبل ، فلمّا أفاق موسى وجد قومه موتى فدعا لَهم وتضرّع إلى الله أن يحييهم فأحياهم ورجعوا إلى قومِهم . [ وهذا قوله تعالى في الآية اللاحقة (ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ]
57 – (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ) أي السحاب ، كان يظلّهم عن الشمس وذلك في التيه (وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ) المنّ 1 شيء كالسكّر أبيض اللون حلو الطعم ينحلّ في الشمس ويكون لزجاً يسقط على الأشجار أو على الأرض في أماكن مخصوصة ويكون سقوطه من وقت الفجر إلى طلوع الشمس ، ويسقط أحياناً في لواء [محافظة] السليمانية من ألوية [محافظات] العراق ، وأصله إفرازات حشرة أكبر من الذبابة وأصغر من الزنبور تطير في الفضاء وفوق الأشجار وتفرز المنّ قبل طلوع الشمس ، وهي كالنحلة التي تفرز العسل .
والسلوى طير يعرف بالسمّاني 2 كانت تعيش على شاطئ البحر فأرسل الله عليها ريحاً فرفعتها وألقتها على بني إسرائيل بكثرة فأخذوا يصيدونَها و يأكلونَها (كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) أي وقلنا لهم كلوا من هذه الطيّبات التي جعلناها رزقاً لكم ، وهي المنّ والسلوى والأنعام التي كانت معهم عندما خرجوا بِها من مصر (وَمَا ظَلَمُونَا) أي وما أصابونا من ضرر (وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) لأنّ شرّهم يعود عليهم .
------------------------------------------------
1 [لَمّا رأوه قال بعضهم لبعض (من هو ) يعني ما هذا الذي نراه , فقال موسى هو الطعام الذي وعدكم الله به . فمن ذلك سمّي (المنّ ) – المراجع ]
2 [وهي تشبه الدرّاج وقد تكون الدرّاج عينه – المراجع ]
58 – (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ ) أي قرية أريحا ، فإنّ الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يحاربوا الكنعانيين ويأخذوا بلادهم (فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ ) من حبوبِها وأثمارها وأنعامها وطيورها (رَغَداً ) أي موسّعاً عليكم (وَادْخُلُواْ الْبَابَ ) يعني باب القرية (سُجَّداً ) أي منقادين لأمرنا طائعين غير عاصين ، لأنّهم امتنعوا عن دخولِها خيفة أهلها ، أي خوف الحرب ، وقد ذكرها سبحانه في سورة المائدة أيضاً فقال : {ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} ولكنّهم امتنعوا عن الدخول و{قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ، (وَقُولُواْ حِطَّةٌ) الحطّة طلب الغفران من الله ، وباب حطّة في المقدس ، يعني باب الغفران ، والمعنى : استغفروا لذنوبكم وقولوا الله حطّ عنّا أوزارنا (نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ) التي سبقت إذا فعلتم ما أمِرتم به (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ) منكم زيادة على ما يستحقّونه من الأجر والثواب .
59 – (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ) قومهم (قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ) : لَمّا أمرهم الله تعالى أن يدخلوا أرض كنعان بعث موسى إثني عشر رجلاً من كلّ سبط واحداً ليتجسّسوا أرض كنعان وذلك حسب طلب بني إسرائيل ، فقالوا لَهم اذهبوا وتجسّسوا هل هي كثيرة الخيرات من المزارع والبساتين والفواكه والأنعام أم هي عكس ذلك ، ويجب عليكم أن تقولوا الحقّ في ذلك ولا تكذبوا ، فإن كانت كثيرة الخيرات كما أخبرنا موسى فإننّا نحارب الكنعانيّين وندخلها ، وإذا كانت عكس ذلك فلا نحارب ولا ندخلها .
فلمّا ذهب الرجال وتجسّسوا خيراتِها وجدوها على أحسن ما يكون ولكن رأوا أهلها أقوياء طوالاً غلاظاً فخافوا منهم . فلمّا رجعوا لم يتكلّموا عنها بما هو الصواب بل أخذوا في ذمّها وذلك خيفة أن يقاوموا أهلها بالحرب ، إلاّ رجلين منهم تكلّما بالصواب وأخذا في مدحها ومدح خيراتِها وأتيا بعنب وتين ورمّان من بساتينها .
فلمّا سمع قوم موسى أنّ هؤلاء العشرة يذمّونَها امتنعوا عن دخولِها وعن محاربة أهلها ، فهذا معنى قوله تعالى (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ) قومهم (قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) يعني كان جوابُهم على غير ما أوصوا به ، حيث أنّ قومهم أوصوهم بأن يقولوا الحقّ ويتكلّموا الصدق ، ولكنّهم فعلوا عكس ذلك تكلّموا بالباطل وكذبوا على قومهم وعلى نبيّهم وظلموهم بذلك وكانوا سبب امتناعهم عن الدخول إلى تلك الأرض (فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء) أي عذاباً من السماء، فإنّ الله تعالى أنزل الطاعون على هؤلاء العشرة فماتوا ، وأمّا الإثنان اللذان تكلّما بالصدق فلم ينزل عليهما الطاعون بل أطال الله عمريهما حتّى دخلا أرض كنعان بعد ذلك وأكلا من أثمارها وهما يوشع بن نون وكالب بن يفنّة ، وقوله (بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ) أي كان الطاعون جزاءً على أعمالِهم السيّئة .
آراء المفسّرين
جاء في مجمع البيان صفحة 119 في تفسير قوله تعالى {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} قال : "إنّ الله تعالى قال لَهم {قُولُواْ حِطَّةٌ} ، فبدّلوا وقالوا حنطة وقيل أنّهم قالوا بالسريانية (هاطاسماقاتا) ومعناه حنطة حمراء فيها شعيرة ، وكان قصدهم في ذلك الاستهزاء ومخالفة الأمر ."
60 – (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ ) أي طلب الماء لقومه لَمّا عطشوا ، وذلك في البرّية في موضع يسمّى رفيديم (فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ) كان جبل في تلك الصحراء يسمّى جبل حوريب وفيه حجر كبير ظاهر من الجبل فضرب موسى ذلك الحجر بعصاه (فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً) من الماء ، يعني اثنا عشر ينبوعاً من ذلك الجبل (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ) أي قد علِم كلّ سبط من أسباط إسرائيل موضع شربِهم ، لأنّ موسى قسّم تلك الينابيع عليهم (كُلُواْ ) من المنّ والسلوى (وَاشْرَبُواْ ) من هذه الينابيع ، ذلك (مِن رِّزْقِ اللَّهِ) أعطاكم الله إيّاه (وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) العثوّ هو التخبّط في المكان أو بالشيء حتّى يتلفه أو يفسده ولا تزال هذه الكلمة مستعملة في الموصل [في العراق] ، والمعنى : لا تُفسدوا في الأرض بأخلاقكم السيّئة .
فشرب بنو إسرائيل من تلك الينابيع ما داموا هناك ، ولَمّا ارتحلوا أخذوا يبحثون عن آبار وينابيع أخرى ليشربوا منها .
وقد انفجر الماء مرّتين الأولى في رفيديم تفجّر من جبل حوريب بالماء اثنتي عشرة عيناً ، وانفجر الحجر بعين واحدة من الماء لَمّا ضربه موسى بعصاه أيضاً وذلك في برّية صين في موضع يسمّى قادش ، وإنّما انفجرت عين واحدة في قادش ولم تنفجر اثنتا عشرة عيناً لأنّ الله تعالى أمر موسى أن يكلّم الحجر في هذا المكان بأن يعطي ماءً 1 ، ولكن موسى لم يكلّم الحجر بل ضربه بالعصا كما في المرّة الأولى ولذلك انفجرت عين واحدة ، ففعل موسى في هذا الموضع بخلاف ما أمره الله فعاتبه الله تعالى على ذلك ، وهناك ماتت مريم أخت موسى وهارون ودُفنت هناك .
-----------------------------------------------------
1 [ "خذ العصا واجمع الجماعة أنت وهارون أخوك وكلّما الصخرة على عيونِهم فتعطي مياهها " عدد 20: 8 ؛ وتريد الآية إفهام بني إسرائيل أنّ الحجر يفهم ويعطي الماء ، ولكنّهم أسوء حالاً من الصخر – المراجع ]
61 – (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ) وهو المنّ ، وأمّا السلوى لم تنزل عليهم على الدوام بل في بعض الأحيان (فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا ) أي الخضروات (وَقِثَّآئِهَا ) وهو خيار تعروزي (وَفُومِهَا ) أي الثوم ، وكان اسمه فوم في قديم الزمان ولكن عند اختلاف الألسن واللغة الأجنبية صاروا يسمّونه بالثوم ، والشاهد على ذلك قول الشاعر وهو يصف بستاناً ويصف زرعها :
كانتْ لَهمْ جنّةٌ إذْ ذاكَ ظاهرةٌ فيها الفراديسُ والفُومانُ وَالبَصَلُ
وإنّما قال الشاعر فومان لأنّ الثوم نوعان وهما الثوم العادي وثوم العجم ويسمّى عند العرب "سير" ، (وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ ) الله تعالى جواباً لسؤالِهم (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) يعني أتستبدلون الخضروات والثوم والبصل بالمنّ والسلوى ؟ (اهْبِطُواْ مِصْراً ) يعني ادخلوا مصراً من الأمصار 1 (فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ) يعني تجدون فيها ما أردتم (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ) وذلك بطردهم من البلاد وتيههم أربعين سنة في القفر (وَالْمَسْكَنَةُ ) يعني الفقر (وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ) أي ورجعوا بعد عزّهم بغضب من الله ، وذلك الطاعون الذي أصابَهم فأهلك كثيراً منهم في البرّية والأفاعي التي كانت تلدغهم ، فإنّ الله تعالى أرسل عليهم الأفاعي فأخذت تلدغهم وذلك في طريق بحر سوف من جبل هور إلى أرض أدوم فمات كثير منهم من لدغ الأفاعي (ذَلِكَ ) إشارة إلى الذلّ والمسكنة والطاعون والأفاعي (بِمَا عَصَواْ ) أمر ربّهم ، أي بسبب عصيانِهم ومخالفتهم أمر ربّهم (وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ) على ضعفائهم .
-----------------------------------------------
1 [أي إحدى المدن ، وليس قطر مصر كما توهّم بعض المفسّرين وكتّاب هذا العصر في أحاديثهم المتيسّرة ومجلاّتِهم . – المراجع ]
62 – ثمّ بيّن سبحانه بأنّ من آمن من جميع الأمم وصدّق رسله وسار على سننهم فلم يغيّر شرايع الله وعمل صالحاً فله أجره عند ربّه فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ) بمحمّد ، يعني المسلمين (وَالَّذِينَ هَادُواْ ) يعني اليهود (وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ ) الذين ماتوا قبل مجيء محمّد ( مَنْ آمَنَ ) منهم (بِاللَّهِ) إيماناً خالصاً وصدّق رسله (وَالْيَوْمِ الآخِرِ) يعني صدّق بيوم القيامة (وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ) في الآخرة (وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من الشياطين في عالم البرزخ (وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) على فراق الدنيا بعد موتِهم .
63 – ثمّ عاد سبحانه إلى خطاب بني إسرائيل فقال (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ) يعني أخذنا عليكم الميثاق في زمن موسى بأن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تجترئوا على المعاصي ، فنقضتم المواثيق ونكثتم العهود وعصيتم أمر ربّكم وعبدتم العجل في زمن موسى والبعل بعد وفاته (وَ ) اذكروا أيضاً إذ أخذنا عليكم الميثاق لَمّا (رَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ) وهو الجبل الذي كان موسى يناجي فوقه ، وذلك لَمّا نزل بالألواح إليهم في المرّة الثانية قالوا ومن يصدّق أنّها من عند الله ، وكانوا تحت الجبل فاهتزّ الجبل وانشقّ ومالت الشقّة فوقهم وكادت تسقط عليهم فتقتلهم لولا أنّهم صاحوا آمَنّا وصدّقنا ، فاستقرّت الشقّة بِمكانِها ولم تسقط عليهم ، فأخذ موسى العهد عليهم بأن لا يعودوا إلى تكذيبه ، وقال لَهم : (خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم ) من الألواح (بِقُوَّةٍ) يعني بقوّة عزم ويقين ، واعملوا بِما فيها من الأحكام ولا تكونوا شاكّين متردّدِين (وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ ) يعني واتّعظوا بِما في الكتاب أي التوراة ، فالذكر معناه الموعظة (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) عقابه إن اتّعظتم وعملتم بِما في التوراة . ونظير هذه الآية في سورة الأعراف قوله تعالى {وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
64 – (ثُمَّ تَوَلَّيْتُم) أي رجعتم عن طاعة الله (مِّن بَعْدِ ذَلِكَ) الميثاق (فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بأن بعث فيكم أنبياء وهداة (لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ) في الآخرة .
65 – (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ) يا بني إسرائيل قصة يهوذا والصوريّين الساكنين في يهوذا (الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ ) بأن اشتغلوا وباعوا واشتروا وصادوا السمك ، وكان محرّماً عليهم ذلك في السبت (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) أي مطرودين كالقردة .
فإنّ الله تعالى أوحى إلى نحميا بن حكليا أن يؤنّب رؤساء يهوذا على أعمالِهم وأن يغلق أبواب المدينة ليلة السبت لكيلا يأتي أحد من هؤلاء ليبيع ويشتري في السبت ، فأمر نحميا غلمانه بأن يغلقوا أبواب المدينة ولا يفتحوها إلاّ بعد السبت ، فبات هؤلاء خارج المدينة أذلاّء مطرودين بلا غطاء ولا وطاء ، وصعد نحميا فوق السور وأنّبهم على أعمالهم وأنّب رؤساء يهوذا على أعمالِهم فكان كلٌّ منهم يقول رأيت بني فلان يصيدون فصدنا نحن ورأينا بني فلان يبيعون فبعنا نحن ، فقال لَهم نحميا : إنّ القردة تقلّد الإنسان في أعماله فأنتم أصبحتم كالقردة تقلّدون عاملي الشرّ فلماذا لا تنهون عن عمل الشرّ بل تعملون كعملهم ؟
66 – (فَجَعَلْنَاهَا ) أي تلك الحادثة يعني طردهم من المدينة وغلق الأبواب عليهم ومبيتهم خارج المدينة (نَكَالاً ) أي تأديباً (لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا ) من القرى ، أي لِمن كان حولَها من القرى (وَمَا خَلْفَهَا ) أي وللقرى البعيدة أيضاً لأنّهم سمعوا بقصّتهم فتأدّبوا وتركوا البيع والشراء في السبت (وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ) فاتّعظوا بتلك الحادثة وحمدوا الله على هدايته لَهم حيث أنّهم لم يعتدوا في السبت على بيع ولا شراء ولا صيد . والقصّة مذكورة في الإصحاح الثالث عشر من نحميا في مجموعة التوراة .
67 – (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَة ًقَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً) أي أتجعلنا مكان هزء فتهزأ بِنا ؟ (قَالَ ) موسى (أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) الذين يهزؤون .
وإليك القصّة : قُتِل رجل من بني إسرائيل لأجل ماله ولم يُعرف قاتله ، فجاء أهله إلى موسى وأخبروه ، فسأل موسى ربّه أن يعلمه بالقاتل ، فقال الله تعالى إذبحوا بقرة واضربوا المقتول ببعض لحمها أو بعضو من أعضائها فإنّه يحيى المقتول ثمّ اسألوه عن قاتله فيخبركم . فرجع النبي موسى إلى قومه وأخبرهم بذلك . ولَمّا كان عندهم إحياء الميّت من العجب أخذوا يسألون عن البقرة وأيّ البقر يذبحون ، فقال بعضهم نذبح بقرة مسنّة وقال آخرون بل نذبح بكراً ، ثمّ أجمعوا أن يسألوا موسى بذلك .
68 – (قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ ) البقرة التي نذبحها (قَالَ) موسى (إِنَّهُ يَقُولُ ) يعني إنّ الله تعالى يقول (إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ) الفارض : الكبيرة في العمر ، والبكر : الصغيرة التي ولدت مرّة واحدة ، والمعنى : لا كبيرة ولا صغيرة (عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ) يعني متوسّطة في العمر فهي بين الكبيرة والصغيرة ، فالعوان : التي ولدت مرّتين أو ثلاثاً (فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ ) به من ذبح البقرة .
69 – ثمّ أخذوا يسألون عن لونِها (قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ ) موسى (إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا ) أي شديدة الصفرة ، يقال في صفات الألوان : أصفر فاقع ، وأبيض ناصع ، وأخضر ناضر ، وأحمر قانٍ وأسود حالك ، (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ) أي تعجب الناظرين إليها وتفرحهم بحسنها .
70 – ثمّ أخذوا يسألون عن أعمال تلك البقرة (قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ) البقرة التي أمرنا بذبحها : أهي من العوامل أم من السوائم (إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) أي اشتبه علينا فلا ندري أيّها نذبح (وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ) إلى صفة البقرة بتعريف الله إيّانا .
71 – (قَالَ ) موسى (إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ) أي لا تسرع في مشيها بل تسير ببطء ، يقال ناقة ذلول ودابّة ذلول ، إذا كانت تسرع في مشيها ، (تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ ) أي تستعمل لإثارة الأرض يعني للكراب ولا تسقي الزرع (مُسَلَّمَةٌ ) أي سليمة من الأمراض ونقص الأعضاء (لاَّ شِيَةَ فِيهَا ) أي لا كلف في جلدها يخالف لونَها بل كلّها صفراء (قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ) أي الآن جئت بأوصافها تماماً ، يعني عرفناها وهي بقرة فلان (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ) أي قارب أن لا يفعلوا ذلك لغلاء ثمنها ولفضيحة القاتل .
72 – (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) أي تدافعتم في قتلها ، يعني كلٌّ منكم يدفع جريمة القتل عن نفسه ، فالدرء معناه الدفع كقوله تعالى في سورة النور {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} ، يعني ويدفع عنها العذاب (وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) من أمر القتل .
73 – (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ ) أي المقتول (بِبَعْضِهَا) أي ببعض أعضاء البقرة المذبوحة فيحيا المقتول واسألوه عن قاتله ، فلمّا فعلوا جلس المقتول وأخبرهم بالقاتل ثمّ مات (كَذَلِكَ) أي كما أحيا هذا المقتول (يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى ) فلا يصعب عليه شيء (وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ ) يعني المعجزات الباهرة الدالّة على وحدانيته (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) أي لكي تستعملوا عقولكم ولا تكونوا مقلّدين ، فمن لم يستعمل عقله ولم يبصر رشده فهو كمن لا عقل له .
ولَمّا رأى بنو إسرائيل هذا الحادث سألوا موسى قائلين : إذا قُتِل بعدك أحد منّا في محلّ ولم نعرف قاتله فماذا نصنع ؟ فسأل موسى ربّه عن ذلك ، فقال تعالى : إذا قُتِل إنسان ولم يُعرَف قاتله ، إجمعوا رؤساء تلك المحلّة التي وجد فيها القتيل واذبحوا عجلة من البقر واأتوا بالرؤساء فيغسلوا أيديهم ويقسموا بالله أنّهم بريئون من دم القتيل ، فإذا أبى أحد منهم أن يقسم فإنّه عالم بالقاتل .
وقصّة القتيل والبقرة المذكورة في القرآن كانت مسطورة في التوراة ، ولكن لَمّا هجم نبوخذ نصّر على فلسطين ومزّق التوراة ذهبت منها قصّة القتيل والبقرة ، وبقي فيها حكم المقتول المجهول قاتله مسطوراً ، وذلك في الإصحاح الحادي والعشرين من التثنية .
75 – ثمّ أخذ سبحانه في خطاب المسلمين فقال (أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ ) يعني أن يؤمن اليهود لكم ويسلموا (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ) الذي كلّم به موسى فوق جبل الطور ، يعني الوصايا والأحكام الشرعية (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ) أي يؤوّلونه إلى وجوه ، يعني يغيّرون معانيه من بعد ما فهموه (وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) أنّهم يحرّفونه ويَجترئون على المعاصي بتحريفه ، فمن كانت هذه أفعالهم مع أنبيائهم فكيف يؤمنون بنبي من العرب فلا تطمعوا بإيمانِهم .
76 – (وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا ) بمحمّد (وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ ) يعني إذا التقى اليهود فيما بينهم في مكان خالٍ من المسلمين (قَالُواْ ) أي قال بعضهم لبعض على وجه العتاب (أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ ) أي أتحدّثون المسلمين بِما فتح الله عليكم من الرؤيا . الفتح هو نبأ جديد ، ومن ذلك الرمّال يسمّى فتّاح فال ، لأنّه يخبر بنبأ جديد ، وذلك أنّ أحد أحبار اليهود رأى في المنام أنّ ملاكاً يقول له : صدّقوا محمّداً فهو نبي حقّ وهو المنعوت في كتابكم . فقصّ رؤياه على اليهود وشاع خبر تلك الرؤيا بينهم حتّى وصل خبرها للمسلمين . وقوله تعالى (لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ ) أي لتكون تلك الرؤيا حجة للمسلمين على إسلامهم وعلى ترككم الإسلام ، وتلك الحجة تكون يوم القيامة عند الله (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) أيها اليهود فتؤمنوا بِمحمّد بعد هذه الأدلّة والبراهين الدالّة على صدقه .
78 – (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ ) لا يقرؤون ولا يكتبون (لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ) الذي جاء به موسى علماً حقيقياً ولا يفهمون ما فيه ولكنهم مقلّدون (إِلاَّ أَمَانِيَّ ) يعني إلاّ ما سمعوه من علمائهم وخطبائهم من التوراة التي خلطوها بالأكاذيب والأماني كقولِهم إنّنا شعب الله المختار وكلّ الأمم عبيد لنا1 ، وقولهم : لا يدخل الجنة إلاّ من كان يهودياً ، وقولهم نحن أبناء الله وأحبّاؤه ، وقولهم سوف يكون الملك لنا والحكم بأيدينا ، فكذّب الله تعالى أمانيّهم فقال (وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ) يعني تلك الأماني لم يذكرها الله تعالى لِموسى وا ذلك إلا ظناً منهم .
-----------------------------------------------
1[بينما الشعب المسمّى بالإسرائيلين انقرض "أكثره" بعد أن أخصى "أكثرهم" نبوخذنصّر ، والذين ينتسبون إليه اليوم كذّابون متهوّدون ليسوا إلاّ . – المراجع ]
79 – (فَوَيْلٌ ) أي شدّة العذاب (لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ ) : هجم نبوخذنصّر على فلسطين وقتل كثيراً من اليهود ومزّق التوراة وأسر الباقين إلى أرض بابل في العراق وبقوا فيها سبعين سنة ، ولَمّا رجعوا إلى فلسطين أخذ علماء اليهود في جمع الرقوق المتمزّقة من التوراة ، والذي كان يحفظ شيئاً منها كتبها ويكتب ما يحفظه غيره أيضاً حتّى جمع كلّ واحد من علمائهم كتاباً وقدّموه إلى قومهم ورؤسائهم وقالوا هذه التوراة التي أنزل الله . 1
وكان اليهود يرفضون ذلك منهم لِما يرونه فيها من الزيادة والنقصان ، فجاء الكاهن عزرا بن سرايا "عزير" وكان من علمائهم فعمل معهم حيلة فكتب كتاباً ونقّحه وترك كلّ كلمة (الله) في الكتاب فارغة ، ولَمّا أكمل الكتاب أخذ يكتب ذلك الفراغ بكتابة مخفية لا ترى بالعين ولا يظهر لونها ويكون أسوداً إلاّ يعد عرضها لأشعة الشمس ، وكانوا في ذلك الوقت لا يعرفون تلك الكتابة المخفية ، ولكن عزرا تعلّمها في بابل وكان كاتباً ماهراً ، وكان ملك بابل أعطاه سلطة على اليهود وقرّبه في أرض بابل ، والكتابة المخفية هي محلول نترات الفضة فإذا كتبتها على ورقة فلا تظهر كتابتها إلاّ بعد عرضها لأشعة الشمس .
ولَمّا أكمل الكتاب جاء به إلى رؤساء اليهود وقال هذه التوراة التي أنزلها الله على النبي موسى لم تزد كلمة ولم تنقص كلمة . قالوا وما البرهان على ذلك ؟ قال إنّي تركت كلّ كلمة (الله) فارغة في الكتاب وبعد أربعين يوماً تجدونها مكتوبة وإنّ الله تعالى سيكتبها بقلم القدرة ليكون ذلك برهاناً على صدقي .
قالوا له : يجوز أنّك تكتبها وتقول إنّ الله كتبها ، فإنّنا لا نقبل منك حتّى تبقى هذه التوراة عندنا أربعين يوماً وأنت لا تقترب منها فإذا وجدناها بعد هذه المدّة مكتوبة كما قلت فأنت صادق ، وإن وجدناها غير مكتوبة فلا نقبلها منك . فرضي عزرا بِهذا الشرط وقال يجب أن تضعوها مكشوفة أمام السماء ، فقالوا لك ذلك .
فأخذوا ذلك الكتاب الذي كتبه عزرا ووضعوه في محلّ مرتفع وأقاموا عليه حرّاساً أربعين يوماً لئلاّ يمسّه أحد فيكتب ما أراد ، ولَمّا كملت المدّة فتحوا الكتاب فوجدوه مكتوباً كما أخبرهم عزرا لأنّه كان من جلد الغزال فأثّرت به أشعّة الشمس فاسودّت الكتابة التي كتبها بمحلول نترات الفضّة ، فحينئذٍ صدّقوه وقبلوا الكتاب منه وصاروا يحترمونه وأصبح رئيساً على علمائه ، فحينئذٍ قالت فرقة منهم عزرا إبن الله .
فهذا معنى قوله تعالى (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ) أي ليحصلوا على ذلك ثمناً قليلاً هي الرياسة والأموال التي حصلوا عليها بسبب الرياسة ، وإنّما قال الله تعالى (ثَمَناً قَلِيلاً ) ، لأنّ المال يزول ، وهو قليل بالنسبة للآخرة مهما كثر ، (فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ) أي عذاب لهم بسبب الذي كتبته أيديهم من تغيير وتبديل (وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ) من الأموال .
وإنّما توعّده الله بالعذاب لأنّه قال هذا الكتاب من عند الله وقد فاته أشياء لم يكتبها ، ومِمّا فاته كتابة صفة محمّد خاتم النبيين لم يكتبها 2 ، وزاد كثيراً في التوراة من تلقاء نفسه ، فكان ذلك سباً لكفر اليهود وجحودهم نبوّة محمّد ونبوّة عيسى .
[ http://www.quran-ayat.com/alkhilaf/index.htm#توراة_عزرا__ ]
--------------------------------------------------------
1[ وهم ثلاثة أحدهم يهويست بذكر إسم الجلالة يهوه ، والثاني إلوهيست يذكره باسم إلوهيم ، والثالث أمحرز وهو يوفّق بين الإثنين . والتوراة الحالية هي لعزرا الكوهين أحد الخصيان الذين خدموا نبوخذنصّر . – المراجع ]
2 [ ومع ذلك فإنّ الآية 18 من سفر التثنية بإصحاحه الثامن عشر تنبئ بمجيء الرسول العربي الأمّي من أولاد إسماعيل أخ إسحق . – المراجع ]
80 – (وَقَالُواْ ) أي قال علماء اليهود (لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ) يعني لا يكون عذابنا في النار إلاّ أياماً قلائل ، وهي سبعة أيام ، على عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل ، لأنّ موسى وعدهم ثلاثين يوماً ، ولَمّا لم يعد انتظروا ثلاثة أيام أخرى ثمّ صنعوا العجل وعبدوه سبعة أيام ورجع موسى عند انتهاء الأربعين ، وقالوا أيضاً أنّ عمر الدنيا سبعة آلاف سنة وقد جعل الله لكلّ ألفٍ منها يوماً من تلك الأيام السبعة (قُلْ ) يا محمّد لهؤلاء اليهود (أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا ) بأن لا يعذّبكم إلاّ سبعة أيام ، فإن كان ما تزعمون (فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ ) يعني إنّ الله تعالى إذا عاهد أحداً فلا يخلف ما وعد به ولكنّ الله لم يعاهدكم بذلك بل دعوى تدّعونَها وأمانيّ تبدونَها (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) من الحقائق بل هي ظنون وأماني .
81 – (بَلَى ) تمسّهم النار ويعذّبون فيها كلّ عل مقدار خطيئته ، وليس الأمر على ما زعموا أنّهم يتعذّبون سبعة أيام (مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ) يعني ذنباً (وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ ) يعني واظب عليها ولم يتب إلى الله منها (فَأُوْلَـئِكَ ) المواظبون على الخطايا (أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) أي باقون دائمون ، فالسيّئة هي الصغائر من الذنوب وليست من الكبائر ولا الإشراك والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة النساء {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} ، يعني إن تجتنبوا الكبائر من الذنوب نغفر لكم الصغائر .
فقوله تعالى (مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ) يعني من كسب ذنباً من العلماء ، لأنّ الآية خاصة بعلماء اليهود ، وتشمل علماء النصارى والإسلام أيضاً ، والمعنى إنّ العلماء إذا أذنبوا ذنباً وإن كان صغيراً فإنّهم يستحقّون عليه النار لأنّ حكم العالم غير حكم الجاهل ، فالذنب من العالم أعظم من الإشراك الذي يكون من الجاهل ؛ لأنّ الجاهل يلقي نفسه في النار فقط ، والعالم يلقي نفسه ومن يقتدي به . 1
والذنب العظيم الذي يكون من العالم ليس التهاون والتماهل في الطاعات ولا التعرّض إلى بعض المحرّمات التي تخصّ نفسه ، ولكنّ الذنب العظيم الذي يصدر منه سنّة يسنّها فيعمل بِها قومه ومن يقتدي به ، أو يفتي فتوى أو حكماً لا يرضي الله ، أو يرى قومه وأهل مذهبه قد ساروا على غير طريق الحقّ فلا يرشدهم إلى الصواب بل يطابقهم أو يسكت عن الحقّ لئلاّ يمقتوه ، أو لئلاّ يمنعوا عنه الحقوق فلا يعطوه بعد ذلك من الدراهم كالزكاة أو الخمس أو حقّ الإمام أو مردّ مظالم أو غير ذلك ، فإذا سكت عن الحقّ لأجل الدراهم أو المناصب أو غير ذلك فإنه مسئول عند الله يوم القيامة ، فحينئذٍ يقول الله تعالى للملائكة [كما في سورة الصافات] : {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} ، ويقول الله تعالى لذلك العالم : يا هذا إنّي أعطيتك علماً وحكماً لترشد عبادي إلى طريق الحقّ وقد وجدتَ قومك ضالّين عن الطريق فلماذا سكتّ عن الحق ولم ترشدهم ، أشتريتَ الدنيا بالآخرة وأبدلت رضا المخلوق بسخط الخالق ؟ ثمّ يأمر به إلى جهنّم ، وذلك قوله تعالى (بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) .
-------------------------------------------------
1 [يريد بذلك البدعة ، وما أكثر البدع التي زجّها الشعوبيّون في الإسلام بقصد أو بدون قصد . - المراجع ]
84 – (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ) يعني ميثاق أسلافكم الذين كانوا في زمن موسى وقلنا لهم (لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ) يعني لا يقتل بعضكم بعضاً (وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ) أي ولا تحاربوا قوماً منكم فتهزموهم وتخرجوهم من ديارهم (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ ) بالميثاق وقبلتم به (وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ) على أنفسكم بالميثاق وقبوله .
ونظيرها قوله تعالى في سورة الأعراف {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا} .
85 - ثمّ بيّن سبحانه أنّهم نكثوا العهد وخانوا الميثاق وقتلوا النفوس وسفكوا الدماء وأخرجوا قومهم من ديارهم فقال (ثُمَّ أَنتُمْ ) أبناء (هَـؤُلاء ) الذين أخذنا عليهم الميثاق (تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ ) يعني يقتل بعضكم بعضاً (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ ) يعني وتخرجون بعض قومكم من ديارهم تطردونهم وتغصبونَها (تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) أي متعاونين على إخراجهم بالظلم والعدوان (وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ ) يعني وإذا وجدتم أسيراً من قومكم في أيدي أعدائكم تفكّون أسره بالفدية (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ) من ديارهم ، فلماذا تخرجونَهم من ديارهم ثمّ تفادونَهم ؟ (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ) يعني تصدّقون بعض أحكام التوراة وتعملون بِها وتنكرون الأحكام الأخرى ولا تعملون بِها ، (فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ، والخزي الذي أصابهم هي الجزية التي وضعها النبيّ عليهم ، وإخراج بني النضير من ديارهم (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) أيها اليهود من الأعمال السيّئة .
88 – (وَقَالُواْ ) يعني اليهود (قُلُوبُنَا غُلْفٌ) أي عليها غلاف لا نفهم ما تقول يا محمّد ، وذلك عناداً منهم وتكبّراً (بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ ) والمعنى كذبوا في قولِهم قلوبنا غلف ، بل يفهمون ولكن عناداً منهم وتكبّراً فلا ينقادون للحقّ فلهم اللعنة جزاءً لكفرهم ولهم سوء الدار (فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ) يعني قليل منهم يؤمنون بك يا محمّد ويصدّقونك .
89 – (وَلَمَّا جَاءهُمْ ) أي اليهود الذين كانوا في زمن محمّد (كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ ) يعني القرآن (مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ) من أمر التوحيد في الكتب السماوية وأنّ العبادة لا تجوز لغير الله (وَكَانُواْ) أي اليهود (مِن قَبْلُ ) مبعث النبي ونزول القرآن (يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ) أي يخبرون مشركي العرب بمجيء نبيّ ويعلمونهم صفاته ، ولفظة "يستفتحون" معناها ينبئون ويبشّرون بحدوث شيء فيه خير (فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ ) يعني فلمّا جاءهم محمّد الذي عرفوا وصفه واستفتحوا بمجيئه على المشركين (كَفَرُواْ بِهِ ) أي جحدوه وأنكروه ولم يصدّقوه (فَلَعْنَةُ اللَّه ) أي غضبه وعقابه (عَلَى الْكَافِرِينَ ) به . 1
------------------------------------------------
1[ وكذا سيكون حال بعض المعاندين إذ يجحدون المهدي عند ظهوره رغم معرفتهم بانطباق السمات والعلامات الموجودة في كتبهم مع أنّهم أوّل المستفتحين به على من سواهم . – المراجع]
90 – (بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ ) أي بئس المال الذي أبدلوه بأنفسهم وآثروا دنياه على آخرتِهم ، لأنّهم كفروا بمحمّد طلباً للمال وحباً للرياسة 1 (أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ ) يعني كان خسرانهم بسبب أنّهم كفروا بما أنزل الله ، وهو القرآن (بَغْياً ) أي حسداً منهم وعدواناً (أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ) يعني كان حسدهم لمحمّد وعداوتُهم له لكونه عربياً ولم يكن منهم ، ولكنّ الله يؤتي الحكمة والنبوّة لِمن يشاء من عباده فلا يلتفت إلى عشيرة ولا إلى قبيلة بل يختار من الناس من كان حسن السريرة كريم الأخلاق طيّب النفس يتمكّن أن يقوم بهذا الواجب . (فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ) أي فرجعوا إلينا مستحقين غضباً على غضب ، يعني أعددنا لهم ضعفين من العذاب ، فالغضب الأوّل لكفرهم بعيسى والثاني لكفرهم بمحمّد (وَلِلْكَافِرِينَ ) أمثالهم (عَذَابٌ مُّهِينٌ ) يوم القيامة .
----------------------------------------------
1 [ وكذا سيكون حال جاحدي المهدي ، إذ يقاومونه لحبّهم المال وطلبهم في الترأس ، وإن كانت دعوته إسلامية تدعوهم إلى تنفيذ أحكام القرآن . – المراجع ]
91 – (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ) أي لليهود (آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ ) على محمّد وهو القرآن (قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا ) يعنون التوراة (وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ ) أخبر الله تعالى عنهم بأنّهم يكفرون بما جاء بعد التوراة كالإنجيل والقرآن (وَهُوَ الْحَقُّ ) أي وهو كلام الله وليس من كلام البشر (مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ ) أي أنزل الله القرآن مصدّقاً لِما معهم من الأحكام الشرعية التي في التوراة ومتمّماً للشرايع (قُلْ ) يا محمّد لهم (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ ) نزول القرآن كيحيى وزكريا وغيرهما (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) بالتوراة كما تزعمون ؟ أليس الله حرّم عليكم قتل النفس في التوراة فكيف تقتلون أنبياءه ؟
----------------------------------------------
[على الهامش
والحقيقة أنّ اليهود الحاليين والمعاصرين للرسول الأكرم لم يؤمنوا بالتوراة أيضاً ، فلو آمنوا بِها لصدّقوا رسالة محمّد عليه السلام بإطاعتهم للتوراة التي ألزمتهم بالطاعة والإذعان للرسول العربي ؛ فقد جاء في سفر التثنية " أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلّمهم بكلّ ما أوصيه به ويكون أنّ الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلّم به باسمي أنا أطالبه " 18 : 19 ، والمعنى أنّ الله تعالى يبعث لليهود ولغيرهم نبياً من أفضل أولاد إسماعيل أخ إسحاق هو كموسى ، ولا يعرف الكتابة بل كلّ ما يسمعه من جبريل يذيعه ويبلّغه لهم ولسواهم ، والذي لا يذعن لقوله يكون الله تعالى الطالب ويصبح هو المطلوب ولن يكون على أمره إلاّ مغلوب ."
انتهى الهامش – المراجع ]
93 – (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ) يعني أخذنا عليكم العهد والميثاق بأن لا تشركوا بالله شيئاً (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ) وهو الجبل لَمّا مال عليهم وكانوا تحته ، فقلنا لهم (خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم ) من الأحكام الشرعية (بِقُوَّةٍ ) أي بعزيمة ويقين ، وقد سبق تفسيرها ، وقوله (وَاسْمَعُواْ ) أي أصغوا لقولنا وامتثلوا أوامرنا (قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ) يعني صارت أعمالهم كمن قال سمعنا وعصينا ، لأنّهم لم يمتثلوا أمر ربّهم ولم يعملوا به إلاّ القليل (وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ) أي دخل حبّ العجل في شغاف قلوبِهم ، لأنّهم كانوا معتادين على عبادة الأوثان في مصر قبل مجيء موسى إليهم (قُلْ ) يا محمّد لَهم (بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ ) يعني إذا كان إيمانكم يأمركم بعبادة العجل وقتل الأنبياء وتكذيب الرسل فذلك بئس الإيمان (إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ) بالتوراة كما تزعمون : نؤمن بما أنزل علينا .
96 – (وَلَتَجِدَنَّهُمْ ) أي اليهود (أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ) يعني أحرص الذين هم أهل كتاب مثلهم (وَ ) أحرص (مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ ) كالمجوس وعبدة الأوثان . ثمّ بيّن سبحانه زيادة حرصهم على البقاء في دار الدنيا فقال (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ) يعني لو يعيش هذه المدّة (وَمَا هُوَ ) يعني عمره (بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ ) يعني وما عمره بمخلّصه من عذاب جهنّم (أَن يُعَمَّرَ ) أي مهما عمّر ، فلفظة زحزح يعني خروجه من جهنّم ، والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة آل عمران {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} .
والمعنى ولو أنّ أحدهم بقي في الدنيا ألف سنة يفكّر في حيلة تنجيه من عذاب الله فلا يتوصّل إلى ذلك إلاّ بالإيمان والطاعة (وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) فيعاقبهم على أعمالهم .
97 – إنّ بعض اليهود سألوا النبيّ فقالوا من يأتيك بالوحي ، قال جبرائيل يأتيني به ، فقال أحد اليهود لرفقائه إنّي عاديت جبرائيل ولا أودّه بعد اليوم فلماذا ينزل بالوحي على رجل من العرب ولا ينزله على رجل منّا ؟ فنزلت هذه الآية (قُلْ ) يا محمّد لهؤلاء اليهود (مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ ) يعني إنّ جبريل نزل بالوحي على قلبك يا محمّد بإذن الله لا باختياره ، فما ذنب جبريل معهم فيعادونه ؟ (مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ) يعني جبرائيل مصدّقاً للكتاب الذي بين يدي محمّد (وَهُدًى ) لمن يهتدي به ، يعني القرآن (وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) بدخول الجنة .
100 – (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ ) الله (عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم ) يعني من اليهود ، ويريد بذلك العهود التي أخذها الأنبياء على قومهم ، والمعنى : وكلّما عاهدوا أنبياءهم عهداً بأن لا يشركوا ولا يقتلوا ولا يفسقوا نبذ العهد فريق من اليهود الماضين ، والألف من قوله (أَوَكُلَّمَا ) للاستفهام ، ومعناه أيفعل اليهود الحاضرون كما فعل الماضون ؟ وهنا حذف في الكلام ، والتقدير : وهم غير مؤمنين ، ولذلك قال بعدها (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ) يعني أكثرهم نبذوا العهود وهم مع ذلك غير مؤمنين .
ومن جملة العهود التي نبذها اليهود ما كان بين رسول الله وبين بني قريظة والنضير : عاهدوا أن لا يعينوا عليه أحداً بالحرب فنقضوا ذلك العهد وأعانوا عليه قريشاً يوم الخندق .
101 – (وَلَمَّا جَاءهُمْ ) أي اليهود (رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ ) يعني محمّداً (مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ) من أمر التوحيد ونبذ الأوثان والأصنام [كما ذُكِر] في الكتب السماوية (نَبَذَ ) أي ترك (فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ) يعني من علماء اليهود (كِتَابَ اللّهِ ) يعني التوراة (وَرَاء ظُهُورِهِمْ ) يعني تركوها ونبذوها ولم ينظروا فيها ويتصفّحوها ليطابقوا صفة محمّد مع صفة الأنبياء ، ودعواه إلى التوحيد كما دعوا ، وأعماله كما عملوا ، ونبذه الأصنام وتكسيرها كما فعلوا في الماضي ، وبذلك يعلمون أنّه رسول من ربّ العالمين حيث طابقت أعماله أعمال الأنبياء ودعواه دعوة الرسل وذلك إنْ خفي عليهم اسمه في التوراة وضاعت صفاته في الرقوق التي مزّقها نبوخذ نصّر ، ولكنّهم نبذوا التوراة ولم يلتفتوا إلى الصفات وتركوا الأدلّة والبيّنات وقالوا إنّما هو ساحر اجتمع عليه أهل الفلاة فتجاهلوا أمره وأنكروا صدقه ورفضوا قوله حسداً منهم لِما جاء به من العلم وتكبّراً لِما دعا إليه من الدين (كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) قصص الأنبياء الماضية وكتبهم الباقية ، فيفهمون أنّه ليس ساحراً بل هو رسول من ربّ العالمين .
102 – (وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ ) يعني أنّ علماء اليهود تتبّعوا قول الشياطين وقالوا كقولهم (عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) يعني قالت اليهود في محمّد كما قالت الشياطين في ملك سليمان . فإنّ الشياطين قالوا لم ينل سليمان هذا الملك إلاّ بسحره ، وكذلك اليهود قالوا إنّ محمّداً لم ينل هذه المنزلة ولم يجتمع إليه الناس إلاّ بسحره ، وذلك لشدّة حسدهم وبغضهم إيّاه .
ثمّ بيّن سبحانه أنّ سليمان لم يعمل بالسحر ولم يكتم الحقّ كما كتمه هؤلاء اليهود فقال (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ) فكلمة كفر معناها تغطية الشيء وكتمانه ، والمعنى : ما كتم سليمان الحقّ وما عمل بالسحر ، (وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ ) أي كتموا الحقّ وعملوا بالسحر ، وقد ضرب الله مثلاً في هذه الآية فجعل محمّداً مقام سليمان ، وهؤلاء اليهود مقام الشياطين ، والمعنى : لقد قلتم أيّها اليهود في أمر محمّد كما قالت الشياطين في أمر سليمان ولكنّ الأمر عكس ذلك ، فإنّ محمّداً ليس ساحراً ولا كافراً بل أنتم كافرون حيث كتمتم الحقّ في أمر نبوّته وأخفيتم على الناس حقّه مع علمكم بصحّة قوله وإيضاح تبيانه . ثمّ بيّن سبحانه بأنّ السحر من أعمال اليهود وعاداتهم لا من أعمال المسلمين ونبيّهم فقال (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) فهم شياطين الإنس يعلّمون الناس السحر (وَ ) يعلّمون الناس أيضاً (مَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ ) من التفرقة ، والملكان هما من ملاّكي بني إسرائيل أي من رؤسائهم وكانا من جملة الأسرى الذين أخذهم نبوخذنصّر إلى أرض بابل في العراق ، وهما (هَارُوتَ وَمَارُوتَ ) وكانا يعلّمان الناس السحر ويأخذان أجرة عليه .
ثمّ بيّن سبحانه بأنّ الرجلين وإن كانا ساحرَين لا يغشّان الناس ولا يكتمان الحقّ كهؤلاء اليهود الذين كتموا أمر محمّد بعد أن اتّضح لهم أنّه نبي ، فقال تعالى (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ ) من الناس (حَتَّى يَقُولاَ ) له (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ ) أي محنة واختبار فلا تفتتن بنا (فَلاَ تَكْفُرْ ) أي فلا تعمل بالسحر فتكتم الحقّ (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا ) أي من الرجلين (مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) أي بين الرجل وزوجته (وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ ) من الناس (إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) أي إلاّ بإرادته ، والمعنى : وما هؤلاء المتعلّمون من الملكين بضارّين أحداً من الناس إلاّ بإرادة الله ، لأنّ الله تعالى يصرف ذلك الضرر عمّن يشاء ، ويخلّي بينه وبين من يشاء (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ) أي ما يضرّ بهؤلاء المتعلّمين لأنّ المتعلّمين يعملون ذلك لقومهم ومعلوم ما في ذلك من الضرر ، لأنّهم يفرّقون بين الزوجين (وَلَقَدْ عَلِمُواْ ) أي ولقد علم الناس (لَمَنِ اشْتَرَاهُ ) أي لمن اشترى ذلك السحر من الملكين وتعلّمه منهما (مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ) وهنا حذف في الكلام تدلّ عليه اللام من قوله (لَمَنِ ) والتقدير : ولقد علموا لمن اشتراه عذاباً وما له في الآخرة من خلاق ، أي ما له من نصيب في الجنة ، لأنّ الساحرين كانا يشترطان مع الناس فيقولان : من تعلّم منّا هذا العلم وعمل به فله عذاب يوم القيامة وما له في الآخرة من نصيب .
فكان بعض الناس يقبل بهذا الشرط ويتعلّم منهما ، وبعضهم لا يقبل بذلك . ثمّ عاد سبحانه إلى ذمّ اليهود وعلمائهم فقال (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ ) أي بئس الشيء الذي باعوا به أنفسهم ، لأنّهم ألقوا بأنفسهم في جهنّم لأجل المال والرياسة (لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ) العاقبة .
آراء المفسّرين
في قوله تعالى {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } جاء في مجمع البيان ص 174 قال : "{ واتبعوا ما تتلوا} معناه تقرأ عن عطاء وقتادة, وقيل معناه تكذب عن أبي مسلم يقال تلا عليه إذا كذب ، وقولـه: { على ملك سليمان } قيل معناه في ملك سليمان كقول أبي النجم: (فهي على الأفق كعين الأحولِ) أي في الأفق, ثم إن هذا يحتمل معنيين: أحدهما: في عهد ملك سليمان , وقال أبو مسلم معناه ما كانت تكذب الشياطين على ملك سليمان وعلى ما أنزل على الملكين ، { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا } بيَّن بهذا أن ما كانت تتلوه الشياطين وتَأَثُره وترويه كان كفراً إذ برأَ سليمان (ع) منه ولم يبين سبحانه بقولـه {ما تتلو الشياطين على ملك سليمان} أنها أي شيء كانت تتلو الشياطين ثم لم يبيّن بقولـه سبحانه {وما كفر سليمان} أن ذلك الكفر أيّ نوع من أنواع الكفر حتى قال: { ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } فبّين سبحانه إن ذلك الكفر كان من نوع السحر فإن اليهود أضافوا إلى سليمان السحر وزعموا أن ملكه كان به فبرأَه الله منه وهو قول ابن عباس وابن جبير وقتادة.
واختلف في السبب الذي لأجله أضافت اليهود السحر إلى سليمان (ع) فقيل إن سليمان كان قد جمع كتب السحرة ووضعها في خزانته وقيل كتمها تحت كرسيه لئلا يطلع عليها الناس فلما مات سليمان استخرجت السحرة تلك الكتب وقالوا إنما تم ملك سليمان بالسحر وبه سخر الإنس والجن والطير ، عن السندي. وفي قولـه تعالى { يعلمون الناس السحر} قولان: أحدهما: أنهم ألقوا السحر إليهم فتعلموه والثاني: إنهم دَلّوهم على استخراجه من تحت الكرسي فتعلموه ..الخ ".
اختصرنا آراء المفسّرين لئلاّ يطول الكلام ، فانظر كيف اختلفت آراء المفسّرين في ذلك وتناقضت أقوالهم ، لأنّهم لم يهتدوا إلى الحقيقة .
105– (مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ) بمحمّد (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) أي اليهود (وَلاَ الْمُشْرِكِينَ ) من أهل مكة (أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم ) أيها المسلمون (مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ ) يعني لا يحبّون أن ينزل الوحي عليكم بالقرآن بل يريدون ذلك لهم (وَ ) لكن (اللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ ) أي بالوحي والحكمة والنبوّة (مَن يَشَاء ) من عباده ، لا من تختاره الناس (وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) على أنبيائه ومن اقتدى بهم .
106 – لَمّا نزل قوله تعالى في سورة الأنعام {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا ...إلخ} قال النبيّ : "اللّهمّ خفّف على أمّتي الأحكام ولا تشدّد " فنزلت هذه الآية (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ ) في التوراة ، يعني ما نبطل من حكم كان في التوراة عليكم أيها المسلمون (أَوْ نُنسِهَا ) يعني أو نترك حكم الآية كما هو نقيمه عليكم (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا ) في القرآن ، يعني بخير من ذلك الحكم وأيسر منه تخفيفاً عليكم أيها المسلمون (أَوْ مِثْلِهَا ) يعني أو نأتيكم بحكم مثل ما في تلك الآية التي لم تنسخ من التوراة (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فيأتيك بأحكام أيسر مِمّا في التوراة وأخفّ .
فالمنسوخ هو في التوراة والناسخ لتلك الأحكام هو القرآن .
فالنسخ هنا هو بطلان حكم وتبديله بآخر ، ومن ذلك قوله تعالى في سورة الحج {فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} أي يبطل ويغيّر ما يلقي الشيطان على قلب الرسول من وساوس . والاستنساخ هو الكتابة على الورق ، ومنه قوله تعالى في سورة الجاثية {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} يعني كنّا نكتب أعمالكم نسخة بعد نسخة .
والنسي هو ترك الشيء على حالته ، ومن ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا} يعني نتركهم في جهنّم كما تركوا يومهم هذا فلم يعملوا لأجله .
ونظير هذه الآية في سورة النحل قوله تعالى {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ، فقوله تعالى {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} يعني إذا بدّلنا حكم آية في القرآن مكان آية في التوراة {قَالُواْ} اليهود {إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ} يا محمّد لأنّك تأتي بأحكام لا تنطبق مع أحكام التوراة .
فالقرآن ليس في أحكامه تبديل وتغيير كما يظنّ المسلمون ، والشاهد على ذلك قوله تعالى في سورة الأنعام { وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} وقال أيضاً {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} و قال تعالى في سورة يونس {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
ومن جملة ما أبطل حكمه على المسلمين وجعله حلالاً لهم اللحوم والشحوم التي حرّمها على اليهود في التوراة ، وذلك قوله تعالى في سورة الأنعام {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} أي حيوان ذي ظفر مشقوق ، {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} ، وغير هذا كثير لا مجال لشرحه .
أمّا الأحكام التي حرّمها على المسلمين كما هي محرّمة على اليهود في التوراة من جملتها لحم الخنزير والميتة والدم وما أهلّ به لغير الله . ومن جملتِها شرب الخمر فهو محرّم في التوراة على اليهود ، وقد أبقى تحريمه على المسلمين في القرآن ، وذلك قوله تعالى في سورة المائدة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
وقد جاء تحريم الخمر في التوراة في سفر الأمثال في الإصحاح الثالث والعشرين آية 29-35 "لِمَن الويلُ لِمَن الشقاوة لِمَن المخاصَمات لِمَن الكربُ لِمَن الجروحُ بلا سببٍ لِمَن ازمهرار العينين ، لِلّذينَ يدمنونَ الخمر الّذينَ يدخلون في طلب الشراب الممزوج ، لا تنظرْ إلى الخمر إذا احمرّت حين تُظهرُ حبابَها في الكأس و ساغت مرَقرِقةً. في الآخر تلسع كالحيّة و تلدغ كالأفعوان. عيناك تنظران الأجنبيّات و قلبك ينطق بأمورٍ ملتويةٍ. و تكون كمضطجعٍ على رأس ساريةٍ. تقول ضربوني و لم أتوجّع، لقد لكأوني و لم أعرف. متى أستيقظ. أعود أطلبُها بعد."
و جاء في سفر إشعيا في الإصحاح الخامس الآية 11-12 :
"ويلٌ للمبكّرين صباحاً يتبعون المسكّر، للمتأخّرينَ في العتمة تلهبُهم الخمر، وصار العود والرباب والدفّ والناي والخمر ولائمَهم وإلى فعل الربّ لا ينظرون ... لذلك وسّعت الهاويةُ نفسَها وفغرت فاها."
108- (أَمْ تُرِيدُونَ ) أيها المسلمون ، ومعناه أتريدون ، أمّا الميم من قوله (أَمْ ) معناه أتتجاهلون أمر نبيّكم أم تريدون (أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ ) محمّداً (كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ ) أي كما سألت بنو إسرائيل من موسى المحالات ، وذلك لأنّ المنافقين قالوا يا رسول الله لولا أنزل عليك القرآن جملة واحدة مكتوباً في قرطاس لكيلا تنساه .فنزلت هذه الآية وهي تبكيت وتأنيب للمنافقين على قولهم (وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ ) أي ومن يستبدل الكفر بالإيمان منكم أيها المسلمون وذلك بسؤاله المحالات من النبيّ (فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ) أي فقد ضلّ عن طريق الحقّ . 1
---------------------------------------------------------------------
1 [وسيعرّض المهدي نفسه إلى سؤال بعض قومه المحالات منه . – المراجع ]
109 – (وَدَّ ) أي تمنّى (كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) يعني من اليهود (لَوْ يَرُدُّونَكُم ) أيها المسلمون (مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ ) بمحمّد (كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم ) يعني من عند قومهم وأبناء دينهم ، ومثال هذا قوله تعالى في سورة التوبة {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } يعني من قومكم و عشيرتكم . وذلك أنّ حي بن أخطب مع جماعة من اليهود دخلوا على النبيّ وتباحثوا معه ، ولَمّا خرجوا سألوا حييّ : "ما تقول في محمّد هل هو نبيّ ؟ " فقال : "هو هو"، فقالوا : "أتؤمن به وهو من العرب وليس منّا ؟ " فقال : "أنا عدوّه إلى الموت ." (مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ) في محمّد ، وذلك قول حييّ بن أخطب : "هو هو" لأنّه عرفه باسمه وأوصافه وأنّه النبيّ الموعود ثمّ عاداه . ثمّ أخذ سبحانه في خطاب النبيّ والمسلمين فقال (فَاعْفُواْ ) عن أغلاطهم التي تكلّموا بِها (وَاصْفَحُواْ ) عنهم ماداموا لو يتعرّضوا لكم بأذى ولم يحاربوكم (حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ ) يعني حتّى يأتي أمر الله فيقاتلهم إن شاء قتالهم ، وأمر الله هو المهدي (إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فهو القادر أن يهديهم إلى الإسلام وهو القادر على إهلاكهم . 1
------------------------------------------------------------------
1 [وهلاكهم هو الكائن كما قال السيّد المسيح "فإنّه سوف تأتي أيام عليك ويحيط بك (أورشليم ) أعداؤك بمتراس ويحدقون بكِ ويحاصرونكِ من كلّ ناحية (هذا بعد وحدة أمة العرب) ويقلبونك وبنيكِ فيكِ ولا يتركون حجراً على حجر " إنجيل لوقا 19: 43-44 – المراجع .]
118 – (وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) وهم مشركو العرب لأنّهم ليسوا أهل كتاب فيعلمون به (لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ ) فيقول لنا إنّ محمّداً صادق في دعواه فاتّبعوه (أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ) أي معجزة تكون دلالة على صدقه كما جاء موسى بالعصا ، فردّ الله تعالى عليهم قولهم فقال (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم ) أي من تقدّمهم من الأمم الماضية الذين اعترضوا على الرسل وطلبوا المحالات (مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ) أي قالوا مثل قول المشركين من العرب وإنّ هؤلاء الماضين لَمّا رأوا الآيات التي طلبوها من رسلهم قد حصلت لم يصدّقوا بِها ولم يؤمنوا بل قالوا هذا سحر مبين ، وكذلك أنتم يا مشركي العرب لو أعطيناكم ما طلبتم من المعجزات لَما آمنتم ولَما صدّقتم بل لقلتم هذا سحر مبين . لقد تشابهت في ذلك آراؤكم واتفقت أقوالكم وما ذلك إلاّ لجهلكم وعنادكم .
وأمّا الذين يفهمون ويعلمون فإنّهم يوقنون ويصدّقون بمجرّد النظر إلى ما خلق الله في الكون من شمس وقمر وماء وشجر وشعر ووبر وطين ومدر . فكيف لا تؤمنون وقد أنزلنا القرآن كلّه آيات بيّنات تدلّ على صدق محمّد ، ألم تكفكم هذه الآيات فتفكّروا فيها وتتدبّروا معانيها ؟ وقوله ( تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ) يعني تشابهت في الكفر والقسوة والاعتراض على الأنبياء والتعنّت والعناد (قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ ) يعني آيات القرآن الدالّة على صدق محمّد (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) بِها .
120 – كان النبي يسامح اليهود والنصارى ويتطلّب رضاهم ليدخلوا في دين الإسلام ، فعاتبه الله تعالى على ذلك فقال (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) أي لا يرضون عنك يا محمّد مهما سامحتهم حتّى تتّبع دينهم (قُلْ ) يا محمّد لهم (إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى ) أي إنّ القرآن هو الهدى ، ومعناه إنّ القرآن هو الذي يهديكم إلى طريق الحقّ فاتّبعوه ، فالهدى يريد به القرآن والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة البقرة {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} ، ثمّ أخذ سبحانه يحذّر نبيّه من كيدهم فقال (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ) الذي أعلمناك به (مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ ) يتولّى أمرك (وَلاَ نَصِيرٍ ) ينصرك عليهم ، لأنّك لو اتّبعت أهواءهم لخذلوك ثمّ قتلوك كما قتلوا يحيى وزكريّا وغيرهم من الأنبياء .
وملخّص الآية يقول الله تعالى : يا محمّد لا تتطلّب رضا اليهود ولا النصارى لكي يدينوا بدين الإسلام بل ادعهم إلى القرآن وجادلهم بالحكمة والموعظة فمن اهتدى منهم فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنت عليه بوكيل .
=================
Man after Death An Hour with Ghosts The Universe and the Quran The Conflict between the Torah and the Quran الخلاف بين التوراة و القرآن الكون والقرآن المتشابه من القرآن ساعة قضيتها مع الأرواح